Page 15 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 15

‫‪13‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

 ‫مثل «قفا نبك» عند امرئ القيس‪ ،‬ومثل «خليلي هذا‬        ‫وأطلال ذاهبة مترعة بالذكريات‪ ،‬ومن هذه الأطلال‬
‫قبر عزة» لكثير في العصر الأموي‪ .‬ومتح شوقي من‬          ‫وادي الطلح الذي استدعاه شوقي على وجه المماثلة‬
                                                       ‫بين الحالين‪ :‬حاله وحال المعتمد بن عباد‪ .‬فكلاهما‬
   ‫معين هذا التراث الشعري العريض ولم يمتح من‬           ‫منفي مبعد عن وطنه وأهله‪ ،‬وكلاهما مقضي عليه‬
‫معين مشاهداته وتفاعلات حواسه‪ ،‬ورؤيته الخاصة‬
 ‫للمكان الذي لم يشاهده‪ ،‬ولو فعل ذلك لما كتب هذه‬         ‫بالنفي‪ ،‬وكلاهما يستبد به الحنين إلى وطن بعيد‬
 ‫النونية بهذا الاستهلال الذي لم يلتفت إلى ملمح من‬      ‫قريب‪ .‬ولذلك جمعت بينهما العوادي التي صارت‬
                                                      ‫مبعث الشجن والأسى على الوادي (الوطن) ومحل‬
 ‫ملامح المكان الذي قضى فيه شوقي ثلاث سنوات‬
‫وهو برشلونة‪ .‬والتفت إلى المكان الثقافي كما رسمته‬             ‫تساؤل “نشجى لواديك أم نأسى لوادينا”‪.‬‬
                                                     ‫وقد أفاض شوقي في تصوير حال المماثلة الشعرية‬
  ‫تقاليد الشعر العربي وكما رسمته أقلام المؤرخين‬       ‫بينه وبين «نائح الطلح» على مدى ثمانية أبيات هي‬
  ‫في «نفح الطيب» للمقري‪ ،‬و”قلائد العقيان” للفتح‬      ‫مطلع نونيته‪ ،‬وركز على الفعل الاجتماعي الذي أنزل‬

                             ‫بن خافان القرطبي‪.‬‬             ‫بهما هذا البلاء وإلام انتهت إليه هذه المأساة‪:‬‬
       ‫ولأن شوقي يمتح من معين التراث الشعري‬                                ‫ماذا تقص علينا غير أن ي ًدا‬
  ‫وتقاليده‪ ،‬حين كتب نونيته هذه وهو في برشلونة‪،‬‬
 ‫فقد انتقل بعد هذا الاستهلال العاطفي‪ ،‬إلى الوقوف‬                     ‫قصت جناحك‪ ،‬جالت في حواشينا‬
‫على رسوم الأجداد وعلى آثارهم في الأندلس التي لم‬                         ‫رمى بنا البين أيكا غير سامرنا‬
  ‫يكن قد شهد منها أث ًرا واح ًدا وكأنه يبكي الأطلال‬                       ‫أخا الغريب وظ ًّل غير نادينا‬
 ‫ولم يفض في وصف الأثر ولا في تصوير تفاصيله‬                             ‫كل رمته النوى ريش الفراق لنا‬
 ‫ولا في ترك بصماته الشعرية عليه‪ ،‬ورأى أنه ينتقل‬                          ‫سهما وسل عليك البين سكينا‬
‫من حرم إلى حرم أي من مصر إلى الأندلس دون أن‬                                     ‫إلى أن يصل إلى قوله‪:‬‬

                                 ‫يسجل الفروق‪:‬‬                         ‫إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع‬
                   ‫رسم وقفنا على رسم الوفاء له‬                              ‫من الجناحين عي لا يلبينا‬
                    ‫نجيش بالدمع والإجلال يثنينا‬
                                                                     ‫فإن يك الجنس يا ابن الطلح فرقنا‬
                     ‫لفتية لا تنال الأرض أدمعهم‬                          ‫إن المصائب يجمعن المصابينا‬
                         ‫ولا مفارقهم إلا مصلينا‬
                                                          ‫فاليد التي قصت جناح النائح‪ ،‬هي نفسها التي‬
                    ‫لو لم يسودوا بدين فيه منبهة‬        ‫جالت في حواشينا‪ ،‬وبفعل هذه اليد قضى عليهما‬
                    ‫للناس كانت لهم أخلاقهم دينا‬
                     ‫لم نسر من حرم إلا إلى حرم‬            ‫البين بأيك غير الايك وسامر غير السامر‪ ،‬ولما‬
                   ‫كالخمر من بابل سارت لدارينا‬           ‫وقع هذا البين‪ ،‬تفجرت ينابيع الشوق وازدادت‬
                    ‫لما نبا الخلد نابت عنه نسخته‬         ‫ألما وحرقة ولا مجيب لها‪ .‬ومع اختلاف الجنس‬
                                                      ‫بين النائح ومماثله فإن وحدة الألم ووحدة المصير‬
                      ‫تماثل الورد خير ًّيا ونسرينا‬       ‫جمعت بينهما‪« :‬إن المصائب يجمعن المصابينا»‪.‬‬
    ‫فليس لدى شوقي إحساس بالفارق بين وصف‬                  ‫ومع أن شوقي كان ذكيًّا وماه ًرا في عقد الصلة‬
‫رسوم مصر وآثارها‪ ،‬وبين وصف رسوم الأندلس‬                ‫التاريخية والشعرية بين محنته ومحنة المعتمد بن‬
   ‫وآثارها‪ .‬فالأمران مستويان‪ .‬انتقال من حرم إلى‬      ‫عباد عبر استدعاء رمزين من رموز المكان الأندلسي‬
   ‫حرم مثل الانتقال من خمر بابل إلى خمر دارين‪.‬‬         ‫هما النائح والطلح‪ ،‬فإن وادي الطلح والنائح ليسا‬
  ‫ومع أن شوقي استسلم للتقاليد الشعرية وللثقافة‬          ‫من معالم المكان الأندلسي في برشلونة وإنما هما‬
   ‫التاريخية في تصوير المكان الأندلسي في نونيته‪،‬‬       ‫من معالم المكان في أشبيلية حيث كان الملك المعتمد‬
 ‫فإن نصيب هذا المكان من نونية شوقي التي بلغت‬            ‫بن عباد وحيث كانت محنته وملكه الذاهب‪ .‬وقد‬
     ‫ثلاثة وثمانين بيتًا ضئيل للغاية ومحصور في‬           ‫اقتفى شوقي التقاليد الشعرية المرعية في مطالع‬
 ‫إطار العاطفة الأكبر التي سيطرت على شوقي وهي‬           ‫القصائد الكبرى التي يقف شعراؤها على الأطلال‬
   10   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20