Page 92 - Nn
P. 92

‫العـدد ‪35‬‬   ‫‪90‬‬

‫نوفمبر ‪٢٠٢1‬‬

 ‫الفاصل ما بين الصمود والتسليم‪ .‬أجل‪ ،‬لقد حدث‬
 ‫هذا لسوء ح ّظ صالح الطيب «التاريخي» ذاك‪ ،‬لأ ّنه‬
‫لم يم ِض سوى نحو العام‪ ،‬حتى سقط برمته‪ ،‬نظا ُم‬

     ‫نميري‪ ،‬بثورة أولئك «الجوعى الغاضبين»‪ .‬لم‬
‫تفارق صالح الطيب تاليًا‪ ،‬سب ُة مشاركته‪ ،‬في «نظام‬

                        ‫القمع هذا»‪ ،‬حتى الممات‪.‬‬
    ‫ما سمعناه منحد ًرا عبر مجرى روايات من هنا‬
‫وهناك‪ ،‬أخذ يغلب عليه طابع المرح مع تقادم العهد‬
    ‫به وتراكم السنوات والحقب‪ .‬ما سمعناه يدعو‬
    ‫ح ًّقا للحيرة والعجب‪ .‬لقد بدا صالح كمستشار‬
‫ثقافي وقتها للسادة رئيس الجمهورية جعفر محمد‬
  ‫نميري مبذ ًرا منذ اللحظة الأولى‪ .‬يذبح خرو ًفا في‬
 ‫كل يوم تقريبًا‪ ،‬يدعو إليه أصدقاء ومثقفين وكتّا ًبا‬
 ‫وصعاليك كانوا يبرونه بسيجارة أيام فقره المدقع‬
  ‫ذاك وشعراء بهيئات مهملة بدا أغلبهم منتميًا إلى‬
   ‫يسار «تاريخي» متخم بمزاعم وقصص بطوليّة‬
‫الأرجح من نسيج كاتب «ثور ّي» من طراز مكسيم‬

       ‫جوركي‪ .‬كان في ولائم صالح الطيب «الذي‬
    ‫أُخذ يعرف بمست ّجد النعمة» الكثير المتن ّوع من‬
  ‫«الشراب»‪ ،‬عو ًضا عن قدرة صالح الطيب المذهلة‬
     ‫في مقاربة النصوص واتجاهات الأدب والنفاذ‬
  ‫بيسر إلى جوهر الأشياء‪ ،‬ناهيك عن قدرة صالح‬
  ‫الطيب المصقولة «جيّ ًدا» في تجسير اله ّوة القائمة‬
‫كما الأسى ما بين أولئك الصعاليك وهؤلاء المثقفين‬
      ‫«العضويين»‪ ،‬حسب جرامشي‪ .‬في نهاية تلك‬
  ‫السهرات‪ ،‬كانوا يشتمونه‪« :‬لكنك تفتقر يا صالح‬
‫إلى شرف الكلمة»‪« .‬يا لك من خائن طبقي‪ .‬بأحلام‬
 ‫برجواز ّي صغير»!! «لقد بع َت روحك للشيطان يا‬
‫صالح»‪« .‬تعلم أ ّيها الظلام ّي القميء المتستّر بالنور‬
   ‫يا هذا المدعو صالح الطيب والطيبة منه براء أننا‬
   ‫أكلنا أكلك وشربنا شرابك لأ ّن أصل المال ُس ِر َق‬
‫من جيب الكادحين»‪ .‬كانت السخر ّية المسالمة سلاح‬
   ‫صالح للاحتفاظ طوي ًل بطعم اللحمة داخل ف ّمه‪.‬‬
   ‫سأل ُت طبيبة‪ ،‬وخيط الأمل ذاك في عودته معافى‬
  ‫للحياة لا يزال معقو ًدا داخل نفسي‪ ،‬عن «وضعه‬
    ‫الصحي الأخير»‪ .‬قالت بنبرة جا ّفة كما صرير‬
  ‫آلة حادة تزحف ببطء على سطح صلب‪« :‬لا يزال‬
   ‫كعهده‪ ،‬في حال سيئة‪ .‬غير قادر على التواصل»‪.‬‬

                      ‫هذه ليلة الخوف والرجاء‪.‬‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97