Page 89 - Nn
P. 89
87 إبداع ومبدعون
قصــة
لماذا نقرأ الكتب ،إذا كنّا على الأرجح نسلك طر ًقا غير هناك ،على يدك اليمين ،دع الشارع القادم حيث
الطرق التي تشير إليها تلك الكتب؟ شجرة النيم الصغيرة ،فالشارع الذي يلي دكان ود
الشهيد هناك ،فالشارع الذي يلي الشارع الذي يليه
أذكر ،خلال لقاء عابر آخر به ،أ ّنه قام بكتابة أرقام والذي كان عند ناصيته تلك لو تذكر نادي الحرية
هاتف َّي ،الج ّوال والبيت م ًعا ،على ظهر غلاف كتاب
الرياضي ..الذي كان ُيسمى زمان بنادي الشهيد
يدعى «لوعة الغياب». عبد المحسن الطالب لو تذكر .هل تعلم (يا هذا)
أحد كتب عبد الرحمن منيف. أن النادي هذا قد ت ّم نقله الشهر الماضي إلى حي
لعله أضاع الكتاب لما ه ّم بزيارتي .ربما لم يضعه.
ربما نسيه فقط .لا أكاد أبرأ من ح ّمى الفحص القشارات قريبًا من المقابر؟ لست أدري .فالأشياء
والتدقيق .ذهني كمرجل يغلي دو ًما بالملاحظة تحدث .لو أننا أخذنا نبحث عن سب ِب وعلّة كل ما
والتفكير .حتى أثناء النّوم ،لا يهدأ .قلت وقد نسي ُت يحدث ،فستتوقف الأحداث عن الحدوث .الأسلم
وقفتي قرب بوابة مستشفى كند ّي أو تما ًما كمن
يتابع أحاديث بدأت زمان في القاهرة ولم تكتمل كما أن تدع الأحداث تمضي .حسنًا ،يا هذا ،عندها
العادة في حينه« :كنت قبل حضورك هذا مباشرة يمكنك أن تلف يمينًا ..بالطبع عند أول شارع يلي
(يا صالح) أتأ ّمل في أعقاب السجائر المتناثرة هذه». ذلك .ستجد تاليًا بعد بيتين على يدك الشمال هذه
أجل ،ثمة ما ظ ّل يشدني إلى هذه الأشياء .لعله هنا المرة بيتًا من الطين أمامه هيكل عربة تاكسي قديم
الشوق إلى مطالعة الأشجان الذاهبة عبر أنفاس ماركة هنتر يقف على عجلات الحديد ،فدعه ،لأن
السجائر .وكنت على يقين تا ّم أن صالح الطيب هذا هو بيت الج ّزار حسين كجروس الذي اشتراه
قد أدرك ما رميت إليه من أمر الأعقاب .لولا أ ّنه مؤخ ًرا من خضر مدني الس ّواق .ثم واصل المشي
بدا عاز ًفا عن الخوض في أحاديث «قد لا يسعها
ضيق وقتي المخصص للراحة» .ثلاثون دقيقة كان في الشارع نفسه ولا تلتفت أب ًدا نحو طاحونة
عليَّ خلالها أن أدخن ،أتناول شيئًا من الطعام على كوراك على يدك اليمين ،لأ ّنك والله لو صادفت عنده
عجل ،قبل أن أعود إلى مواصلة العمل عبر طوابق الحا ّجة أ ّم نورا الأمين الدلاليّة فلن تدعك تذهب في
المستشفى تحت الأرض .كان من ضمن َم َها ّمي
في ورديات «غير وردية هذا المساء» أن أختلف إلى حال سبيلك حتى تعرف هي ما جد أبيك السابع.
الأقسام الداخليّة للمستشفى ،وأقوم طوال ساعات وربما تقنعك هذه العجوز الثرثارة بشراء بعض تلك
الوردية بتجميع كراتين وجرادل بلاستيك صفراء الثياب .حسنًا ،دعنا نركز هكذا على الناحية الشمال،
وبرتقاليّة محكمة الإغلاق تحتوي على مخلّفات
العمليات الجراحي ّة والحقن المستعملة وبعض حيث ستجد بيتًا هو البيت الوحيد الذي تتصدره
الأعضاء الحيوية المنتزعة من جثامين الموتى وغير شجرة يقبع أسفلها دائ ًما كلب ُمر َّقط هزيل لا يبالي
ذلك مما يضع عليه علامة التحذير: بحرامي أو شريف .البيت المجاور لهذا البيت بابه
«خطر حيوي.»Bio Hazard ..
بعد الانتهاء من طوافي ذاك ما بين الأقسام، أخضر .وهو بالضبط بيت شيخ بابكر المأذون
مستخد ًما عربة نقل يدو ّية حمولة ألف كيلو جرام، الذي سألتني أنت عنه ..لا شكر على واجب ..ثم
أضع الكراتين والجرادل كل في جهة مختلفة عن
الأخرى ،داخل ثلاجة شديدة البرودة ،أشبه في بالتوفيق ..في أمان الله ،يا هذا».
ضخامتها بغرفة المسافرين في تلك الأزمنة ،قبل أن كذلك ،صم َت قلي ًل صديقي الناقد المثقف الحصيف
يت ّم الدفع بها في يومي الاثنين والجمعة إلى رصيف
الشحن الداخليّ ،تمهي ًدا لنقلها وحرقها في مكان ما صالح الطيب (ذاك اسمه) ،مفس ًحا المجال على ما
بدا لفرحة لقائي به .وربما صمت كي يتيح لي ذلك
خارج المستشفى.
الوقت اللازم لملاحظة أ ّنه لم يتخل« ،حتى الآن»
برغم سنوات منفاه الطويل الممتد في بلاد الآخرين
شر ًقا وغر ًبا ،عن عادة النشأة الأولى تلك في التع ّرف
على العناوين ورؤية النّاس من غير إشعار مسبق.
شيء ما يحملني على التوقف ،كلما أخذت في تذكر
كيف ض ّل صالح الطيب طريقه ذاك إلى شقتي.
وأبدأ مستعي ًدا ذكرى مواقف أخرى في التساؤل: