Page 33 - Baghdadiat-RightToLeft
P. 33
بغداديات 25 وحش الطاوة
مؤخرا بدأت بأكل الملوخية والبامية، ولا زلت لا احبه ، ولكنني اقبله زهدا، كل تقدمنا في العمر كل ازددنا ميلا للرضى، الذي نسميه زهدا، وهو في واقع الحال ليس اك من قبول باكراه، اتوقف يوما عن اطلاق الشائعات ضد هذين النبات ، ومنها ان الملوخية عد ة الفائدة بحسب فحوصات اجرتها مختبرات يابانية، وان الملوخية تسبب تهتك الاخلاق بحسب دراسات اخرى، كل ذلك يجد نفعا مع عشاق هذه الاكلة، وخاصة اهل بيتي. زرعت ح مرة بامية، وكنت ايامها نشيطا، اقضي ساعات العصر في رش الماء على الاشجار والنباتات المزروعة حول البيت، وكنت اتعمد عدم رش البامية بأية قطرة ماء، املا في موتها، ثبت بعد ذلك ان من حفر حفرة للبامية وقع فيها، فالبامية لعينة وماكرة وتلبي حاجتها لل ء من النشع وليس الغمر، ويساعدها في ذلك الزغب الشو الناعم على قرونها والسيقان. الحقيقة انني في صغري كرهت كث ا من اصناف الخضار، لأسباب مجهولة، وكان ذلك مصدر ازعاج لأمي، اطال الله في عمرها، حيث كانت تجبر على توف طبق اضافي لي، عزا الآن معرفتي بان كل واحد يكره في طفولته صنفا او اك من الطعام. لي صديقان الاول يكره الرز ولا يأكله اطلاقا، والثا لا يحب السمك ولا يأكله اطلاقا، قام صديقنا الظريف الثالث بدعوته للغداء في منزله، وكان يعلم قصته ، فطبخ له صيادية، فاكل حتى شبع وضحك حتى انفجر، في ه يتضوران جوعا ويلعنانه. كنت اكره الباذنجان جدا في طفولتي، واصبحت من عشاقه بعد سن الثلاث ، وقعت في غرامه دينة ميلانو الايطالية، رأيت في قا ة الطعام صورة باذنجانة خارجة للتو من الفرن، مفتوحة من الجانب ويخرج منها بعض حشوتها من اللحم المفروم والمخلوط بالبندورة المفرومة والبصل ومبروش عليها بعض الج طبعا، ومزينة بأوراق الريحان، طلبتها واكلتها فكانت ولا الذ، واصبح من يومها
الباذنجان في صدارة قا ة مأكولا المفضلة.
تعود الي هذه الذكريات بعد ان قرأت نصا جميلا للكاتبة احلام بشارات عن ذكريات طفولتها مع الباذنجان: كمزارعة في الاغوار، وكعاملة تحفظ حبات الباذنجان في صناديق للتصدير، وكمتأملة لهذه النباتات وهي تنمو، وطاهية ومتذوقة لها، وككاتبة وشاعرة تسعى في مهمة شاقة هي استحضار الطعم الاول لكل شيء من الذاكرة وتحويله الى كل ت ومقاطع تشاهد وتسمع وتلمس وتشم. بإمكان هذا النص ان يجبرنا على احترام الباذنجان حتى لو نعشقه: ..... "كل أمسكت بحبة باذنجان، لا أستطيع أن أمحو من أمام عيني حقولا من الأقراط البنفسجية، ولوحة واسعة معلقة على حائط قلعة ممتد بلا نهاية، من أرجل الح م الرقطي الأرجوانية، وأرى أسرابا من النمل، وأرى أسرابا من أشجار السرو، يجللها نخب المطر، وأرى قطيعا من الأبقار بضروع مدلاة، وعجول صغ ة تحتها ص حل تها، وأرى أس كا تسبح في بح ات صافية.. صافية، وأرى دجاجا بلديا مزركشا". .....
معرفتي بقوائم الاكل في البيوت العراقية دون المستوى المطلوب، لقد كنت احيا حياة فلسطينية ولكن في بغداد، وكان اكلي في المطاعم اك منه في البيوت، ونتيجة لذلك فان الانطباع المتكون لدي عن ان طعام العراقي يستند الى اللحوم والرز اك بكث من الخضار قد يكون انطباعا خاطئا، وان صح في محيطي فانه غ صحيح في محيط الآخرين، وان كان صادقا في بغداد فقد لا يصدق في غ ها من المحافظات والمدن والارياف، ولكن يحصل في حيا ان قابلت نباتيا في العراق، واستطيع تخيل الشخص العراقي التقليدي وهو يضرب كفا بكف ويصفر استغرابا، ويحوقل استنكارا، اذا ما قابل شخص لا يحب الباجة والسمك والكباب او التشريب او الدليمية او البريا او الباقلاء بالدهن الحر، ويكتفي بأكل الخضروات والحشائش. في سنوات الحصار تغ ت قا ة طعام العراقي تبعا للظروف الاقتصادية، ولنوعية الطعام المتوفر في الاسواق، فاحتلت الفاصولياء البيضاء )يسمونها اليابسة( موقع الصدارة، ومعها الباذنجان )يسمونه اسود(، و يكن مسموحا لهذا الظرف ان ر مرورا عابرا على السنة العراقي ، فقاموا باستحداث اسم غريب لهذا النبات الاسود المفلطح الذي احتل المقالي فوق الن ان في بيوتهم، فأسموه )وحش الطاوة( أي وحش المقلاة. وظل رفيقا وفيا لهم في ايام الفقر المدقع، ولكنه يسلم من السنة كارهيه، فمنهم من جعله رديفا للحصار الاسود والفقر، ومنهم من فعل مثل فعلي بالملوخية ونشر اشاعة ان اكل الباذنجان يسبب الجنون. ينتج العراق الآن الباذنجان بلون : الاسود البنفسجي، والاخضر الفاتح، وقد ينتج قريبا الصنف الابيض، وهو ما سيترك باعة الخضار العراقي في ح ة من امرهم، هل سيسمون هذا الزائر الجديد، اسود اخضر، اسود ابيض؟! اغلب الظن انهم سينادون على بضاعتهم باسم وحش الطاوة متبوعا باللون. يز العراقيون الباذنجان الحلو ويقولون انه انثى، ويستدلون على حباته من ال َشرطَة الطويلة في قاعه، واما الباذنجان المر فيقولون انه ذكر، ويستدلون على ذلك من كون شرطته السفلية صغ ة ودائرية.
لا يستذكر الحصار في بغداد الا مصحوبا بذكر وحش الطاوة، ومن ذلك هذه المعلقة لشاعر مجهول: اسود سواد الليل والزلف أخضر ........... واللمعة جلد روغان والريحة عنبر غلطان اذا ظنيت بالشتا ننساك ........... رسمك ثبت بالع والطاوة وياك
35