Page 36 - Baghdadiat-RightToLeft
P. 36

اجهزة التكييف العراقية غريبة وعجيبة فهي من صنع محلي وتسمى الواحدة منها مبردة، ولهذه المبردات تقاليد وبروتوكول عمل وصيانة، عجيب غريب، كغرابة حجمها الكب  غ  المتسق ابدا مع وزنها الخفيف، يصعب شرح وتوصيف المبردة ولكنني سأحاول. مكعب عملاق من الحديد الخفيف، قاعدته وسقفه ثابت  وبينه  اعمدة معدنية ووجه ثابت مزود بفتحة يخرج منها الهواء البارد، واما وجوهه الثلاثة الاخرى فمحشوة بخيطان من نشارة الخشب، ومتحركة يسهل وضعها ونزعها لتبديل القش، او فتح مجاري الماء، قاع المبردة هو بركة يتجمع فيها الماء من خرطوم موصول بحنفية، وتضبط كميته عوامة مشدودة الى المدخل، في لحظة تشغيل الكهرباء ستقوم مضخة ماء منتصبة فوق القاع ومحاطة  صفاة بلاستيكية لونها ازرق، برفع الماء من البركة ليجري في شبكة انابيب توزع الماء على الجدران، وتقوم فتحات دقيقة بتنقيطه على القش ليصبح مبلولا، وعند هذه المرحلة سيقوم الماتور بتدوير اسطوانة ذات شفرات تدفع الهواء الحار ليعبر من القش المبلول وينتقل عبر الفتحات المتومضعة في السقوف والجدران منذ التأسيس للبناء، وصولا اليك. عليك ان تختار موقعا جيدا للجلوس او النوم بحيث يصل اليك الهواء البارد التي تبثه هذه المبردة عبر فتحة الجدار، ولض ن س  وتدفق وتوالي انبعاث الهواء فان عليك ان تصنع مجرى هواء عبر فتح الشباك  قدار كاف، ها انت تنعم الآن بهواء بارد ومنعش، ولكن عليك الاحتياط للطوارئ والبقاء في
حالة استعداد والتحول الى تقني ماهر في اية لحظة.
اول خطوة استعداد تتخذها هي كتابة اسمك او رقم شقتك او وضع اية علامة مميزة فوق المبردة الخاصة بك، لأنك عندما ستصعد الى السطح لصيانتها سيختلط الامر عليك، فالسطح مليء بالمبردات المت ثلة جدا وكأنهن توائم من مكعبات الحديد، وانت لا تريد صيانة مبردة ج انك قبل صيانة مبردتك الخاصة. قد يتبدل الهواء البارد ويص  فجأة حار،اعلمانفيالامراّن،اماانيكونالماءقدانقطع،ستلجأعندهاالىتعبئةالبركةذاتيامنخلالبرميلماءتكونقدوضعتههناكعلىالسطحاحتياطا،واماانالفتحات التي تنشر الماء على جدران المبردة قد انسدت من الكلس، ستقوم بنزع الجدران وتنظيف مجرى الماء في ضلعها الاعلى من الصدأ، وفتح تلك الثقوب التي تكلست، وستعود للاستمتاع بالهواء البارد ولكن بعد ان تأخذ دوشا وتبدل ملابسك. قد تشتم رائحة بلاستيك مشعوط، ستعرف فورا ان  اسا كهربائيا قد حدث، وسواء نزل امان الكهرباء ام   ينزل، ستحمل مضخة الماء الاحتياطية التي اشتريتها بداية الصيف لمثل هكذا حالة طارئة، وستحمل الدرنفيس )المفك( وتصعد الى السطح حيث شمس العراق تستقبلك
بكل ترحاب، فتقوم بفك المضخة القد ة وتركيب الجديدة، بين  انت قابع بنصف جسدك داخل مكعب مجوف مزود بالماء والكهرباء والاخطار.
قد يطرق الحارس بابك ساعة الظهر، اعلم عندها ان مبردتك تكب الماء وقد اغرقت السطح، لا تبتئس كل ما عليك عمله هو تبديل العوامة البلاستيكية بأخرى نحاسية، واعادة معايرتها لتوقف تدفق المياه عند مستوى مع ، إن كانت العوامة سليمة فهناك ولا بد ثقب في ارضية البركة بسبب الصدأ، لا تبتئس ايضا سيكون عليك فقط ان  نع عنها الماء حتى تجف وتقوم بوضع مادة لاصقة تسد الثقب وتستطيع الصمود فوق الحديد وتحت الماء. قد تصل اليك عبر فتحة التبريد قشة، اعرف عندها ان القش المحشور ب  الجدران قد اصبح يتفتت بسبب الحر والجفاف، ستقوم عندها بفك الجدران الثلاثة، ونزع الاسلاك التي تحشر مخدة نشارة الخشب، وتضع مخدة جديدة، تحشرها بشبكة الاسلاك. وطالما انك قد نزعت الجدران، فهذه فرصة لتنظيف بركة الماء من الطحالب والقش، وتفقد المصفاة البلاستيكية الزرقاء المحيطة بالمضخة، ونزع ما علق بها من قطع نشارة الخشب. وقبل ان تعيد تركيب الجدران يجب الاطمئنان الى ان انابيب توزيع المياه ما زالت في مكانها و  تنحرف لتصب الماء بعيدا نحو اسلاك المضخة، بقيت مهمة بسيطة وهي ان تحشر بعض الجوانب التي تتحرك مع دوران الماتور بوتد او قطعة ق ش، حتى لا يزعجك صوتها عن تشغيل الماتور الذي سيجعل جسد المبردة يهتز كراقصة لا تحسن الرقص، ولا السيطرة على تضاريس جسدها. قد تسمع اصواتا غريبة تأتيك مع الهواء البارد، إن كانت اصوات ميكانيكية فاعلم ان اجزاء الماتور بدأت تحتك بغ ها، وان موعد تزييتها قد أزف، واما اذا كانت اصوات بشرية فاعلم ان احدهم يتطاول على املاكك ور ا يخطط لسرقة المضخة مثلا. او سرقة المبردة كاملة او استعارتها لساعات ك  صنع احد اصدقائنا ذات عدة ليال من شهري  وز وآب. لقد تعطلت مبردته فصعد الى السطح وابعدها عن الفتحة، وسحب مبردة مكتب المحاماة المغلق ليلا، ووضعها في فتحة شقته، ونام دون أي تأنيب ضم ، فمن وجهة نظره اذا كان الناس شركاء في الماء والكلأ والنار فان من باب اولى ان يكونوا شركاء في الهواء ايضا. في الصباح ازال صاحبنا آثار العدوان، وذهب الى دوامه، وعاد عصرا، فكرر الامر، لأنه   تكن هناك اية فرصة للقاء المحامي وابلاغه بالأمر، تكرر الامر يوما بعد يوم، حتى اكتشف صاحبنا ان اسلاك خط هاتف مكتب المحاماة تخترق الأجواء الاقليمية لبلكونته دون اذنه. اشترى صاحبنا جهاز هاتف وبحث طويلا عن دبوس حتى وجده، فغرسه بشكل عرضي في السلك الواصل لمكتب المحامي ثم ربط اسلاك هاتفه بطرفي الدبوس، وافتتح مكتب اتصالات له ولأصدقائه.كانت فوات  الماء والكهرباء واسعار المحروقات رمزية جدا وكذلك فوات  الهاتف، غ  ان الحصول على خط هاتف كان من الامور المعقدة جدا لدواعي امنية. كانت المبردة حاضرة في الاذهان دوما، حتى ان صديقنا اراد
القول يوما انه ع  على سمكة في اسفل المجمدة، )والمجمدات العملاقة جزء اصيل من ادوات المطبخ العراقي( فقال انه ع  عليها في المبردة!!.
ومع ذلك ومع كل هذا الحضور فان صورة المبردة لا تكفي لاختزال ذكريات الحر في بغداد، فهناك العديد من الصور، بينها اجساد العراقيات التي تفور مع الحر وتختمر وتنضج وتصبح شبقة بشكل لا ارادي، شب ٌق لا يقوى لا شديد الحياء، ولا حسن التهذيب، ولا قسوة العادات على إخفائه. وهناك صورة لعنقود معلق من بلح البرحي، تنضج حباته يوما بعد يوم، وهناك كأس كب  متعرق من شربت الرمان بالثلج المبروش في محل عص  الحاج مهدي زبالة، والذي رغم غرابة وقرف اسمه ظل على مدى عقود يقدم افضل خلطة لهذا النوع من الشراب، حتى ان كافة ملوك ورؤساء العراق زاروه وشربوه من عص ه. وهناك ايضا بضعة زجاجات من الجعة موجودة في الثلاجة و  تبرد بعد،
سيكون عليك ان تنساها قليلا يا صديقي ل  تبرد )من كيفها( دون الحاح.
38


































































































   34   35   36   37   38