Page 80 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 80

‫الانفجار المتأخر للصدمة والثمن النفسي للإنكار‬  ‫وتحت الضغط الشعبي المتصاعد‪ ،‬تم تشكيل لجنة تحقيق برئاسة‬
‫لم تختِف الصدمة المكبوتة التي حاولت إسرائيل "كسحها تحت‬             ‫رئيس المحكمة العليا شمعون أجرانات‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬قررت اللجنة‬
‫السجادة"؛ بل تحولت إلى قنبلة موقوتة نفسية وبيولوجية انفجرت‬         ‫التحقيق في الجوانب العسكرية للحرب فقط‪ ،‬لتتجنب عمًدا تناول‬
‫متأخرة بعد عقود‪ .‬لقد كان الاعتقاد الوطني الذي حكم إسرائيل‬          ‫مسؤولية رئيسة الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشيه دايان‪ .‬لقد‬
‫لسنوات طويلة هو‪" :‬إذا لم نتحدث عنها‪ ،‬فإنها غير موجودة"‪ ،‬لكن‬        ‫كان هذا التهرب من المساءلة على المستوى السياسي الأعلى بمثابة‬
‫الأرقام والإحصائيات الحديثة أثبتت خطأ هذا الإنكار الجماعي‪،‬‬         ‫محاولة للحفاظ على وحدة الدولة ورموزها في وقت الأزمة‪ ،‬لكنه‬
‫وكشفت عن الحجم الحقيقي للضرر الذي لحق بالجيل الذي حمل‬
                                                                                                ‫أدى إلى تأجيج الغضب الشعبي أكثر‪.‬‬
                                           ‫وطأة حرب يوم كيبور‪.‬‬
                                                                                                      ‫ثمن التغيير السياسي‬
‫الندوب الخفية‪ :‬إحصائيات الصدمة المتأخرة (‪Late-‬‬
                                     ‫‪)Onset PTSD‬‬                   ‫بالفعل‪ ،‬فازت مائير وحزب العمل في أول انتخابات ُأجريت بعد‬
                                                                   ‫الحرب‪ ،‬لكن الاحتجاجات الشعبية استمرت بلا هوادة‪ ،‬حتى أجبرتهما‬
‫تشير البيانات الحديثة إلى أن الأرقام الرسمية لم تعكس قط الحجم‬      ‫على الاستقالة وتشكيل حكومة جديدة برئاسة إسحاق رابين في عام‬
‫الحقيقي للصدمة التي يحملها قدامى المحاربين؛ حيث إن الكثيرين‬        ‫‪ .1974‬لم تكن هذه هي المحاسبة النهائية‪ .‬فكما يحدث في أزمات‬

                                      ‫كبتوا معاناتهم لعقود طويلة‪:‬‬           ‫الصدمة‪ ،‬جاءت المحاسبة الحقيقية لاحًقا وبشكل أكثر عمًقا‪.‬‬
‫‪ -‬انتشار اضطراب كرب ما بعد الصدمة (‪ : )PTSD‬كشفت دراسة‬              ‫في عام ‪ ،1977‬صوت الجمهور الإسرائيلي لإخراج حزب العمل‬
‫ُأجريت على قدامى المحاربين الذين طلبوا المساعدة المتأخرة بين‬       ‫من السلطة‪ ،‬وهو الحزب الذي هيمن على المشهد السياسي لعقود‬
‫عامي ‪ 2006‬و‪ 2012‬أن (‪ )%90‬منهم ُو جد أنهم يعانون فعلًيا من‬          ‫طويلة‪ ،‬وانتخب مناحيم بيجن وحزبه اليميني الليكود‪ .‬كان هذا هو‬
‫اضطراب كرب ما بعد الصدمة (‪ ،)PTSD‬مما يؤكد أن ضائقتهم‬               ‫أول تغيير للسلطة في إسرائيل بعد ما يقرب من ‪ 30‬سنة من قيامها‪،‬‬

            ‫النفسية تصاعدت بمرور السنين لتصبح اضطراًبا كامًال‪.‬‬          ‫لينهي بذلك عقود من هيمنة حزب العمل في الحركة الصهيونية‪.‬‬
‫‪ -‬أعراض متفجرة‪ :‬أظهر هؤلاء معدلات عالية جًدا لأعراض حادة‪،‬‬          ‫لقد كان هذا التحول السياسي الجذري دليًال صارًخا على أن صدمة‬
                                                                   ‫حرب يوم كيبور اخترقت الوعي الجماعي وغيرت الخريطة‬
           ‫على رأسها الميل إلى العدوانية‪ ،‬والقلق‪ ،‬ومشكلات النوم‪.‬‬
‫‪ -‬تصاعد الطلب المتأخر‪ :‬حتى بعد ما يتجاوز ‪ 50‬سنة من‬                                                 ‫السياسية للأمة بشكل لا رجعة فيه‪.‬‬
‫الحرب‪ ،‬استمر تدفق طلبات المساعدة؛ حيث تلقت المنظمات‬
‫المتخصصة مئات المكالمات الجديدة من قدامى المحاربين؛ مما‬                                           ‫الهروب نحو الأيديولوجيا‬

               ‫يبرهن على أن الصدمة ظلت كامنة ولم ُتمَح بالزمن‪.‬‬     ‫لم يقتصر رد فعل المجتمع على البحث عن كبش فداء سياسي‪ ،‬بل‬
                                                                   ‫لجأ البعض إلى "التوق الَمِسيحاني" وتأسيس "حركة غوش إيمونيم"‬
                       ‫جرح الأسر‪ :‬الصدمة كخطر نفسي‬                 ‫(كتلة الإيمان)‪ .‬كان هذا التأسيس بمثابة محاولة لـ "تجنب مواجهة‬
                                                                   ‫الصدمة" والواقع المؤلم من خلال الانغماس في الأيديولوجيا وتكثيف‬
‫ُتعد الدراسات التي ُأجريت على الإسرائيليين الذين سقطوا في الأسر‬    ‫الاستيطان‪ ،‬وهو ما ُعَّد شكًال من أشكال القمع الجماعي والهروب من‬
‫خلال حرب يوم كيبور الأكثر دلالة على التكلفة الوجودية للصدمة؛‬       ‫الاعتراف بالضعف البشري والعسكري‪ .‬لقد سعى النظام والمجتمع‬
‫حيث تابعت بعض الدراسات حالتهم لأكثر من ثلاثة عقود‪ ،‬وكانت‬           ‫جاهدًا لـ "كسح مظاهر صدمة الحرب تحت السجادة"‪ ،‬خوًفا من أن‬
                                                                   ‫يطعن الاعتراف بالضعف في الصورة الذهنية لـ"الجندي الإسرائيلي‬
                                                  ‫النتائج صادمة‪:‬‬   ‫الشجاع والوسيم" ويؤثر سلًبا على الروح المعنوية للجنود‪ ،‬أو يضر‬
                                                                   ‫بقدرة المجتمع الإسرائيلي الذي شعر أن "ظهره إلى الحائط" على‬
 ‫‪76‬‬
                                                                                                                              ‫البقاء‪.‬‬
   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85