Page 89 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 89
د .حمادة الشافعي التلاحم الشعبي في حرب أكتوبر
اصطف الجميع لمساندة قواته المسلحة ودعم المجهود الحربي بكل يشير مصطلح القوة الناعمة إلى قدرة دولة ما على التأثير على سلوك
أو تصرفات الدول الأخرى من خلال وسائل أخرى غير القوة
السبل ،سواء بالجهد من خلال التطوع في المستشفيات وعلى الجبهة العسكرية أو الاقتصادية .وتكمن أهمية الدور الذي تلعبه القوى
الناعمة داخل المجتمع في دعم ومساندة الدولة خلال الأزمات التي
أو بالمال؛ حيث تبرع المصريون بكل غال وثمين دون كلل من أجل تواجهها ،وما تحتاجه من مؤازرة ودعم لمواجهة المخاطر الخارجية
التي تتعرض لها الدولة ،وخاصة خلال فترة الحروب وما تقدمه
أن تصبح القوات المسلحة قادرة على مواجهة العدوان وتحرير القوى الناعمة من مساندة قوية للقيادة السياسية والقوات المسلحة
ورفع الروح المعنوية لأفراد المجتمع من أجل التلاحم والدعم القوي
الأرض.
للقيادة والجيش.
وتجسد حرب أكتوبر 1973واحدة من أهم الصفحات التاريخية في إن النصر الذي تحرزه دولة ما لا يتحدد بالإنجاز العسكري الذي
حققته ،والذي يمكن أن يصل إلى حد تدمير القوة العسكرية للخصم،
تاريخ مصر العريق والعالم العربي ،فهي ليست مجرد حرب ولكنه يتحدد في هزيمة إرادة الخصم وإخضاعه بحيث يغير أهدافه
ويتوقف عن الاستعداد لمعركة جديدة .فالعبرة في تحديد معنى النصر
عسكرية ،بل هي قصة عن العزيمة والشرف الوطني والقدرة على والهزيمة ،في إرادة أطراف الصراع ،وهل يتمسك الطرف الذي
انهزم عسكريا في المعركة بإرادة الصمود والتحدي ،أم يغير أهدافه
تحقيق النصر على الصهاينة. ويستسلم لإرادة الخصم؟ رفض المصريون القبول بالهزيمة،
لم يكن الجيش المصري العظيم هو البطل الوحيد في حرب أكتوبر وصمموا على أن يستردوا أراضيهم المحتلة بالقوة.
وكان رهان العدو على استسلام المصريين وخضوع القيادة المصرية
المجيدة ،ولكن الشعب بكل أفراده ومؤسساته أدوا أيضا دورا محوريا للهزيمة .وخرجت تصريحات قادة إسرائيل تحمل نبرة الغرور
والاستعلاء والاستخفاف بقدرة المصريين على الحرب والقتال مرة
لم يقل أهمية عن الدور الذي قام به الجنود على الجبهة؛ حيث وقف أخرى ،وأن أمامهم مئة عام حتى يفكروا في قتال إسرائيل .كل هذا
كان كفيلا بتدمير شامل للروح المعنوية للشعب المصري بأكمله،
الشعب من خلال قوته الناعمة خلف جيشه العظيم لمحاربة الشائعات وليس القوات المسلحة فقط ،ولكن الشعوب ذات الأبعاد الحضارية
العميقة لا تستسلم بسهولة .فلم يكن لهذا الشعب العظيم أن يركع أو
والحرب النفسية التي كانت تبثها وسائل الإعلام الإسرائيلية ،بأن يستكين ،بل إنه كان قادرا على أن يولد من قلب الهزيمة صمودا
الحرب محسومة لمصلحته ،معتمدين في ذلك على حالة اليأس وشجاعة منقطعة النظير.
أحدثت تلك التصريحات حالة من التلاحم الاستثنائي بين جميع
والإحباط التي شعر بها الكثير من أبناء الشعب المصري بعد نكسة أطياف الشعب المصري ،وكما قال الرئيس السادات "إن نكسة يونيو
67كانت استثناء في تاريخنا ،وليست قاعدة ،وإن التاريخ سوف
.1967وقد كانت هذه الحرب النفسية أشد خطرا من الحرب التي يسجل لهذه الأمة أن نكستها لم تكن سقوطا ،وإنما كانت كبوة
عارضة .لقد أعطى شعبنا تضحيات غير محددة وأظهر شعبنا وعيا
ُتدار على الجبهة بالأسلحة ،فهي حرب لم تكن ُتدار بالسلاح المادي، غير محدود ،وأهم من ذلك كله -أهم من الجهد والتضحيات والوعي-
فإن الشعب احتفظ بإيمان غير محدود ،وكان ذلك هو الخط الفاصل
ولكنها أسلحة معنوية تحاول السيطرة على عقول المصريين ،وبث بين النكسة والهزيمة ،ولقد كان إيمان الشعب هو القاعدة .وإذا كانت
روح الخوف والهزيمة بداخلهم .ولكن الشعب المصري أدرك أن كل القاعدة سليمة ،فإن كل شيء بخير".
هذه شائعات ،وأدرك أن الحرب النفسية هذه جزء من خطة العدو من
أجل كسب المعركة حتى يتخلى الشعب المصري عن جيشه .استخدم
الشعب وسائل كثيرة لمواجهة حرب الشائعات ورفع الروح المعنوية،
جاء على رأسها الفنون (من دراما تليفزيونية ،وأغان وطنية ،وأيضا
الدين الذي كان حاضرا بقوة ...إلخ) .فالحديث عن الفن هو حديث
التاريخ والسياسة والوطن ،فالفن هو بوتقة الإبداع ،ومرآة الشعوب
بأفكارها وثقافتها وقيمها الحاكمة وأيضا تاريخها .فالفنون تعد الأهم
تأثيرا في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع ،كما أنها ُتسهم في نشر
الوعي وتشكيل الهوية الوطنية للأطفال والشباب؛ مما يسهم في
تحقيق التلاحم الشعبي حول فكرة الوطن .فلا يمكن أن ننسى دور
الفن في نصر أكتوبر ،ولعب الفن دورا كبيرا في شحذ الهمم وإثارة
85 المشاعر الوطنية.

