Page 39 - merit 53
P. 39

‫‪37‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

 ‫(‪470‬ه)‪ ،‬و»التِّبيان» وهي مذكرا ُت الأمي ِر عب ِد‬                 ‫ماذا لو أن أوروليوس لم يكتب سير َته الذاتي َة‬
  ‫اللهِ (‪483‬ه)‪ ،‬آخ ِر ملو ِك بني زيري بغرناطة‪،‬‬                    ‫بل ُكتبت عنه سير ٌة غيري ٌة‪ ،‬فهل كان س ُيصبِ ُح‬
‫و»المنقذ من ال َّضلا ِل» للغزالي (‪505‬ه‪1111 /‬م)‪،‬‬
                                                                        ‫نسخ ًة أخرى من كلكامش‪ ،‬أي كلكامش‬
       ‫و»الاعتبار» لأسامة بن منقذ (‪584‬هـ‪/‬‬
 ‫‪1188‬م)‪ ،‬و»الفلك المشحون» لمحم ٍد بن طولون‬                       ‫ال ُّروماني الأسطوري‪ ،‬في مقابل كلكامش لو أنه‬
                                                                ‫كت َب سير َته الذاتي َة ليكو َن أوروليوس ال ُّسومري‬
      ‫(‪953‬ه)‪ ،‬وغيرها وصو ًل إلى «اعترافات»‬
                                                                                                      ‫الواقعي؟‬
 ‫جان جاك روسو (‪1778‬م)‪ ،‬التي يع ُّدها بع ُض‬                            ‫في كلا الأمرين‪ ،‬ستولد السير ُة الذاتي ُة من‬
‫الباحثين أ َّو َل سير ٍة ذاتي ٍة حديث ٍة‪ ،‬وانتها ًء ب ِس َي ِر‬    ‫رح ِم إصغا ِء الإنسا ِن لذات ِه‪ ،‬من فلسف ِة التأم ِل‬
                                                                ‫بوجود ِه‪ ،‬من القطيع ِة مع الخلو ِد الإلهي واليأ ِس‬
   ‫عصرنا الذاتي ِة التي انفتحت فيها الكتاب ُة على‬                      ‫من نيل ِه‪ .‬وهكذا ولِ َدت السير ُة الذاتي ُة بع َد‬
   ‫نحو هائ ٍل‪ ،‬من سي ٍر ذاتي ٍة لشخصيا ٍت علمي ٍة‬                ‫الميلا ِد‪ ،‬لتأتي بعد مرحل ٍة خاضتها البشري ُة مع‬
   ‫وسياسي ٍة وأدبي ٍة وفكري ٍة واجتماعي ٍة‪ ،‬فض ًل‬                   ‫ملحم ِة السعي للتحو ِل إلى آله ٍة‪ ،‬قب َل الميلا ِد‪.‬‬
 ‫عن المذ َّكرات واليوميَّات‪ ،‬بل نجدها قد شهدت‬                        ‫ومع كلا ال ِّسيرتي ِن كان الشغ ُف الاجتماعي‬
‫انفتا ًحا شاس ًعا‪ ،‬بحيث نج ُد ك َّل من لديه ال َّرغبة‬              ‫يزدا ُد لسما ِع القصتين‪ :‬الغيرية والذاتية‪ ،‬مع‬
   ‫في الكتاب ِة عن نف ِسه يؤلِّف فيها‪ ،‬متح ِّد ًثا عن‬                 ‫تع ُّدد أشكالِهما‪( :‬القديمة‪ ،‬كما في‪ :‬الملحمة‪،‬‬
   ‫ذات ِه‪ ،‬وأصبحت كتاب ُة اليوميَّا ِت أشبه بطق ٍس‬                   ‫والأسطورة‪ ،‬والخرافة‪ ،‬والتَّراجم الغير َّية)‪،‬‬
                                                                     ‫و(الوسيطة والحديثة‪ ،‬كما في‪ :‬الاعترافات‪،‬‬
       ‫اجتماعي لدى بعض المجتمعا ِت ولاسيَّما‬
      ‫الغربيَّة‪ ،‬وهو ما يكشف عن مدى ال َّشغ ِف‬                             ‫المذ َّكرات‪ ،‬اليوميَّات‪ ،‬التَّراجم الذاتية)‪.‬‬
    ‫الاجتماعي الكبي ِر ج ًّدا بأد ِب ال ّسير ِة الذاتي ِة‬                ‫فمع بزو ِغ السير ِة الذاتي ِة التأملي ِة ذا ِت‬
  ‫فض ًل عن الغيري ِة‪ ،‬برغب ِة المجتم ِع بأن ُيصغي‬                      ‫الارتبا ِط بالشخصيا ِت الفكر َّي ِة والعلميَّ ِة‪،‬‬
‫للآخر حين يتح َّدث عن نفس ِه‪ ،‬ليستم َع ر َّبما إلى‬                        ‫ظهرت «اعترافا ُت» الق ِّديس أوغسطين‬
‫حكمت ِه‪ ،‬إلى ال َّشغ ِف الذي يتشاركه معه‪ ،‬إن كان‬                   ‫(‪430‬م)‪ ،‬وشذرا ٌت من التَّرجم ِة الذاتي ِة لابن‬
   ‫يسعى إلى الخلو ِد أو إلى ال َّسعاد ِة‪ ،‬وما كانت‬                   ‫سينا (‪427‬ه‪1037 /‬م)‪ ،‬و»سيرة المؤ َّي ُد في‬
   ‫خلاص ُة حيات ِه‪ ،‬هل كانت ق َّص ًة كلكامشيَّ ًة أم‬              ‫ال ِّدي ِن» الذاتية لهبة اللهِ بن موسى الاسماعيليِّ‬

                                 ‫أوروليوسيَّ ًة؟‬
  ‫هكذا احتضنت السير ُة الأدبي ُة ال َّسر َد وجعلت‬

         ‫منه ما َّدتها الأساس‪ ،‬سواء أكان سر ًدا‬
      ‫أسطور ًّيا‪-‬ملحميًّا أم واقعيًّا‪ .‬وهكذا تقول‬
    ‫السير ُة إ َّنها صو ُت ال َّذا ِت البشر َّي ِة‪ ،‬بصفتها‬
      ‫الجمعي ِة أو الفردي ِة‪ ،‬هكذا ُتنادي ال ُّن ّقا َد أن‬
‫ُيصغوا لصو ِت ال َّسر ِد فيها‪ ،‬فيستعينوا بالمناه ِج‬
    ‫ال ّسرد َّي ِة ليقتربوا من خصوصيَّتها الأدبيَّ ِة‪،‬‬
  ‫لا أن يبتعدوا عنها حين ُيطبِّقوا عليها المناه َج‬
‫البنيو َّي َة أو الأسلوبيَّ َة أو حتى الأنثروبولوجيَّ َة‪.‬‬
 ‫هكذا ُتنادينا السير ُة أن نفه َمها أكث َر‪ ،‬سواء ما‬
‫يتعلَّق بأشكالِها ذا ِت التَّخيي ِل ال َّذاتي أو التَّخييل‬

           ‫الجمعي‪ .‬فهل سنُصغي لندا ِئها هذا؟‬
   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44