Page 34 - merit 53
P. 34

‫العـدد ‪53‬‬                      ‫‪32‬‬

                                                     ‫مايو ‪٢٠٢3‬‬

       ‫حوزته‪ ،‬وبين البكاء والشحوب تقارب دلالي‬             ‫تراوده ليل نهار‪ ،‬وخير ما نستدل به على ذلك‬
  ‫ونفسي‪ ،‬وبين القمر والمطر تقارب نفسي ودلالي‪،‬‬        ‫مسرحيته (بعد أن يموت الملك)‪ ،‬وما يموج فيها من‬
‫مما يعكس لنا قدرة صلاح عبد الصبور في صناعة‬           ‫انبعاث رائحة الإصلاح في حينه‪ ،‬وتغيير المجتمع في‬

     ‫تلك المعادلة المفارقة‪ ،‬قاص ًدا تعميق الإحساس‬                                               ‫آنه‪.‬‬
‫بالفقد الأرضي الذى امتد إلى فقد السماء‪ ،‬وإن ألزم‬
                                                     ‫ثال ًثا‪ :‬البكاء والهرع والعري‬
    ‫المطر النزول (فوق جبيني المتعب)؛ ليغسله؛ بل‬
 ‫ليجدده؛ وليبعث فيه القوة والنشاط؛ بل ليبعث فيه‬      ‫وإذا استشرفنا قلي ًل محاولة النهوض‪ ،‬أو الإيجاب‪،‬‬
                                                      ‫نلحظ أن الشاعر صلاح عبد الصبور يعود بنا هذه‬
  ‫الحياة من جديد‪ ،‬لأن الجبين رمز للقوة والتحمل‬
                              ‫والعمل والصمود‪.‬‬           ‫المرة ‪-‬وعبر المقطع الأخير من قصيدته تلك‪ -‬إلى‬
                                                     ‫الوراء‪ ،‬إذ نلحظه ما إن ألمح بالطواف‪ ،‬وإلقاء البذور‬
   ‫ثم يعيد الشاعر صلاح عبد الصبور سياق الفقد‬         ‫الخضراء‪ ،‬لينبت الكلأ‪ ،‬ويبث الاخضرار‪ ،‬حتى نجده‬
   ‫بإعادة‪ ،‬أو تكرار البكاء (بكتا حتى ابتل الثوب)‪،‬‬
‫وامتدادهما إلى الجبين مرة‪ ،‬وإلى الثوب مرة أخرى‪،‬‬          ‫قد صعد إلى السماء‪ ،‬لينزل قمرها‪ ،‬ولكنه أنزله‪،‬‬
  ‫مما يعكس حالة التوحد التي يعيشها الشاعر مع‬         ‫بشحوبه (عينا القمر اللب َن ِّي الشاحب)‪ ،‬إنه هنا ص َّدر‬
     ‫الأرض من جهة‪ ،‬والسماء من جهة أخرى‪ ،‬إنه‬
  ‫هنا يمتد بالبكاء السماوي على جبين ذلك الشاعر‬          ‫المشهد بعيني القمر‪ ،‬وخصه‪ ،‬أو نعته باللبن ِّى‪ ،‬و‬
 ‫المفقود‪ ،‬بل وثوبه كذلك‪ ،‬من عيني القمر الشاحب‪،‬‬        ‫أكد صفته‪ ،‬أو وصفه بالشحوب (الشاحب)؛ ليقدم‬
‫إنه يعادل بين ذاته والقمر‪ ،‬فكلاهما يعيش حالة من‬
 ‫التشرذم‪ ،‬حيث البكاء وللقمر مع شحوبه‪ ،‬والسلب‬            ‫لنا صورة أخرى قادمة من السماء‪ ،‬وكأنه بعدما‬
                                                      ‫ص َّدر المشهد الأرضي‪ ،‬بكل سلبياته وقسوته‪ ،‬راح‬
       ‫والفقد لذاته‪ ،‬وما بكاء السماء‪ ،‬أو عينا القمر‬   ‫إلى السماء؛ ليبين عن سلبيات لوازمها‪ ،‬ومنها ذلك‬
‫الشاحب ‪-‬تحدي ًدا مرتين‪ -‬إلا تدلي ًل على تعاطفه مع‬     ‫القمر الشاحب‪ ،‬وفي الصورة تلك تشخيص وتلوين‬
                                                      ‫وتجسيم‪ ،‬مما يعكس ته ُّي ًؤا جدي ًدا يفرضه الشاعر‪،‬‬
  ‫الشاعر‪ ،‬ومن ثم التوحد به‪ ،‬والجبين والثوب هنا‬       ‫خاصة وأنه قد نقل القمر من رتبته العليا السماوية‪،‬‬
   ‫زم َزان لهذا التعاطف من جهة‪ ،‬والتوحد من جهة‬         ‫إلى رتبة أرضية أدنى‪ ،‬حيث النظر بهما‪ ،‬أو البكاء‬
 ‫أخرى‪ ،‬وكلاهما يحمل رمزية الشقاء التي يعيشها‬
                                                          ‫من خلالهما‪ ،‬وإن ختمه بالشحوب؛ ليجري؛ أو‬
           ‫الشاعر‪ ،‬بجبينه وعرقه وثوبه وابتلاله‪.‬‬        ‫لينزل بالسلب من السماء إلى الأرض‪ ،‬وفق سياق‬
 ‫لعل تكرار المطر الباكي بلفظه ودلالته يعني التجدد‬
 ‫أو التطهر من أدران النفس‪ ،‬وقد تصدرت اللفظتان‬                                          ‫قمري شاحب‪.‬‬
                                                        ‫لقد ألزم الشاعر صلاح عبد الصبور عيني القمر‬
     ‫البيتين المتتابعين؛ ليعلمنا أن ذلك المطر مكرور‬  ‫الشاحب هنا البكاء (بكتا مط ًرا فوق جبيني المتعب)‪،‬‬
  ‫وممتد‪ ،‬ومن ثم يكون أثره الحياتي أقوى وأنجع‪،‬‬
‫والبكاء من عيني القمر والمطر تحدي ًدا؛ ليعكس حالة‬        ‫إنه يص ِّدر البكاء هنا لعيني القمر‪ ،‬لكن بكاءهما‬
                                                          ‫أضحى مط ًرا‪ ،‬حيث يعود بنا هنا إلى (ال َّسيَّاب)‬
   ‫التجدد‪ ،‬وإن بدت شحو ًبا وقف ًرا الآن‪ ،‬فإنها بعد‬
                       ‫فترة تصبح نما ًء وتجد ًدا‪.‬‬           ‫وأنشودة المطر‪ ،‬أو إلى الأسطورة الفرعونية‬
                                                        ‫وانبعاث المطر‪ ،‬وليس ذلك بغريب‪ ،‬أو عجيب على‬
 ‫وإذا ما وصلنا إلى الجزء الأخير من المقطع الأخير‬     ‫شاعر كصلاح عبد الصبور‪ ،‬ع َّد واح ًدا من الشعراء‬
    ‫عبر تلك القصيدة‪ ،‬نلحظ أن الشاعر صلاح عبد‬
                                                                                   ‫الثائرين الرمزيين‪.‬‬
 ‫الصبور قد وصل إلى ذروة السلب‪ ،‬حيث يستجلب‬                 ‫إن توظيفه للقمر‪ ،‬وإن كان شاحبًا ‪-‬يشكو هو‬
     ‫ثلاثة حقول دلالية‪ ،‬تكشف السلب وتجليه‪ ،‬بل‬            ‫الآخر حاله إلى رب السماء‪ -‬فإنه ألزمه المفارقة‬
                                                         ‫المائية‪ ،‬بين بكاء نتاج سلب‪ ،‬ومطر نتاج إيجاب‪،‬‬
   ‫تقوده إلى التوجع (آه‪ ،‬يلذعني البرد)‪ ،‬إنها لحظة‬       ‫أو قل إن صح التعبير‪ :‬إنه هنا يفارق بين السلب‬
   ‫توجع‪ ،‬يعيشها كل مشرد مشتت‪ ،‬لا يملك أر ًضا‬
    ‫أو وطنًا‪ ،‬ولك أن تلحظ اللذع في سياق البرد أو‬            ‫والإيجاب‪ ،‬ويضعهما م ًعا في بوتقة القمر‪ ،‬أو‬
‫الشتاء‪ ،‬وكأنه سوط يلسعه‪ ،‬أو يلذعه‪ ،‬مما يستدعى‬
   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38   39