Page 32 - merit 53
P. 32

‫العـدد ‪53‬‬  ‫‪30‬‬

                                                ‫مايو ‪٢٠٢3‬‬

  ‫وتزداد دهشتنا من سوق تلك السيارة‪ ،‬أو حتى‬       ‫مفزعة‪ ،‬استهل بها الشاعر قصيدته تلك (الظلمة)‪،‬‬
  ‫انبعاث صوتها (تتردد في الأنحاء)‪ ،‬بما يعنى أن‬       ‫بل ص َّدرها بالتعريف‪ ،‬ليخصها هي لا غيرها‪،‬‬
‫صلاح عبد الصبور يعطي للمكان شمولية السلب‪،‬‬
‫أو الوهم‪ ،‬أو حتى الفقد نفسه‪ ،‬منها بشكل خاص؛‬      ‫واستهلاله لها أكسبها بع ًدا استهلاليًّا استراتيجيًّا‪،‬‬
‫ليبث بع ًدا سلبيًّا آخر‪ ،‬ينطوي تحت مظلة الخوف‪،‬‬      ‫تبني عليه بقية عناصرها‪ ،‬خاصة إذا كانت تلك‬
                                                            ‫الظلمة مصد ًرا لكل سلبي طافح لديه‪.‬‬
     ‫فما تتردد هنا إنما هي (صلصلة العجلات)‪،‬‬        ‫وما إن نتحرك قلي ًل بعي ًدا عن تلك الظلمة‪ ،‬حتى‬
    ‫الصلصلة (الوهمية)‪ ،‬أو الفزع؛ لأن ما يتردد‬        ‫نجد الشاعر يضعنا مرة واحدة أمامها (تهوي‬
  ‫هنا ليس صوت أذان بمسجد‪ ،‬أو جرس ترنيمي‬            ‫نحو الشرفة)‪ ،‬ليجعلها حاض ًرا (تهوي)‪ ،‬بزمنها‬

‫صلاح عبد الصبور‬                                   ‫المضارع‪ ،‬ودلالتها السلبية الراكزة‪ ،‬حيث موضع‬
                                                     ‫الهاوية‪ ،‬وإلى أي مكان تهوي (نحو الشرفة)‪،‬‬

                                                  ‫شرفته‪ ،‬أو شرفة أمثاله الحالمين الطامحين‪ ،‬حتَّى‬
                                                  ‫لكأن الظلمة شخص يمشي ويهوي ويستقر‪ ،‬إنها‬
                                                   ‫الظلمة الشاخصة الهاوية‪ ،‬ويزيد الشاعر صلاح‬
                                                  ‫عبد الصبور من حركية الصورة‪ ،‬بل من فاعليتها‬
                                                   ‫إزاء المتلقي‪ ،‬حينما يضعها في سياق مماثل موا ٍز‬

                                                       ‫(في عربتها السوداء)‪ ،‬إنها ظلمة وسواد‪ ،‬أو‬
                                                ‫بالأحرى ظلمة داخل ظلمة‪ ،‬حيث جعل الظرفية (في‬
                                                 ‫عربتها) سبي ًل إلى ولوج الصورة‪ ،‬ورسمها بحس‬

                                                  ‫جمالي مرهف‪ ،‬ويؤكد سياق الليل بظلمته الداكنة؛‬
                                                   ‫أو المركبة بصفتها (السوداء)؛ ليعمق الإحساس‬

                                                 ‫بالسياق الليلي الموحش المتحرك‪ ،‬ويزداد تشخيص‬
                                                ‫تلك الظلمة؛ وتوضيح دورها حينما أكسبها مبدأين‬
                                                ‫رئيسيين‪ :‬الظرفية في لفظة (في)‪ ،‬والملكية الغائبة في‬
                                                ‫(عربتها)؛ ليجعل منها شخ ًصا مال ًكا لكل مقتضيات‬

                                                              ‫السواد و لوازمه مع غيبته وإيهامه‪.‬‬
                                                      ‫ولأن صلاح عبد الصبور مغرم بالسواد‪ ،‬أو‬
                                                  ‫بالسلب في سياق السواد‪ ،‬نلحظه في البيت الثالث‬
                                                    ‫يزاوج بين الواقع والخيال‪ ،‬أو الوهم (صلصلة‬
                                                    ‫العجلات الوهمية)‪ ،‬حيث يستهلها بالصوت مع‬
                                                      ‫الحركة‪ ،‬بالصوت في الصلصلة‪ ،‬والحركة مع‬
                                                    ‫العجلات‪ ،‬لنستشرف يقينًا لحظة الوصول‪ ،‬أو‬
                                                    ‫بالأحرى التأهب لمحطته‪ ،‬غير أنه يفارقنا بلفظة‬
                                                 ‫(الوهمية)؛ ليوقعنا في مأزق فن ٍّي‪ ،‬مفاده أنه إما أن‬
                                                ‫يعمق الإحساس بالسلب‪ ،‬فتكون الأخيرة تمكينًا له‪،‬‬
                                                 ‫وتعمي ًقا لدلالته‪ ،‬وإما أن يكون مجاب ًها له؛ فيختتم‬
                                                 ‫ذلك بالوهم‪ ،‬إحسا ًسا منه بالمواجهة‪ ،‬والقدرة على‬
                                                  ‫قلب الوهم‪ ،‬أو التوهم‪ ،‬أو حتى العجلات الوهمية‬
                                                  ‫إلى حقيقة ماثلة في مجابهة الوهم ومواجهته‪ ،‬بل‬

                                                                                  ‫وقهره كذلك‪.‬‬
   27   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37