Page 137 - Pp
P. 137

‫‪135‬‬  ‫تجديد الخطاب‬

    ‫كان صنفها‪ .‬لذا فالمنطق عنده‬         ‫الخصوص‪ ،‬ما دامت سلامة‬                  ‫فهناك موازين روحانية‬
  ‫هو الميزان الذي يظهر فيه الحق‬     ‫الاستدلال الفقهي منوطة بالتزام‬    ‫كالعروض الذي هو ميزان للشعر‬
 ‫من الباطل‪ .‬وعليه فالغزالي يوافق‬                                       ‫يعرف به أوزان الشعر‪ .‬وتسعى‬
  ‫الفلاسفة في أن المنطق أو «كتاب‬       ‫الشروط الصورية للقياس‪ ،‬إذ‬
                                      ‫لا يمكن للاستنباط الشرعي أن‬         ‫الموازين الروحانية أسا ًسا إلى‬
      ‫النظر» أو «كتاب الجدل» أو‬       ‫يكون منت ًجا بالمفهوم الأرسطي‬      ‫معرفة الله وملائكته‪ ..‬وغيرها‬
‫«مدارك العقول» أو «معيار العلم»‬        ‫إلا بعد انتظامه في هيئة قياس‬    ‫من القضايا الدينية‪ ،‬وهو ما أكده‬
                                                                          ‫الغزالي في تعريفه لهذا الميزان‬
    ‫أمر ضروري لا غنى عنه؛ لذا‬                              ‫منطقي‪.‬‬         ‫بقوله‪« :‬هو ميزان معرفة الله‬
 ‫استند إليه كوسيلة لفهم مساعي‬          ‫هذا لا يعني أن الغزالي تجاوز‬      ‫وملائكته وكتبه ورسله وملكه‬
                                     ‫القياس الفقهي «قياس التمثيل»‪،‬‬
                      ‫الفلاسفة‪.‬‬                                             ‫وملكوته لتعلم كيفية الوزن‬
‫بنا ًء على ذلك عمل على محاسبتهم‬            ‫بل عمل على تنظيم بحوث‬          ‫من أنبيائه كما تعلموا هم من‬
                                      ‫شرعية تنظي ًما منهجيًّا لتسهيل‬      ‫ملائكته‪ ،‬فالله تعالى هو المعلم‬
    ‫‪-‬أي الفلاسفة‪ -‬على ما وقعوا‬        ‫عملية الاجتهاد‪ .‬وعليه ركز على‬       ‫الأول والثاني جبريل والثالث‬
 ‫فيه من أخطاء في اعتقاده‪ ،‬وهكذا‬                                          ‫الرسول والخلق كلهم يتعلمون‬
‫عكف قبل أن يناقشهم على دراسة‬             ‫مقتضيات القياس البرهاني‬      ‫من الرسل مالهم طريق في المعرفة‬
  ‫الفلسفة حتى وقف على غورها‪،‬‬            ‫أثناء دراسته للقياس المنطقي‬         ‫سواه»‪ .‬وبناء على ذلك يرى‬
 ‫فأدرك من أسرارها ودخائلها ما‬       ‫لاستشعار يقينيته‪ ،‬ما دام اليقين‬   ‫الغزالي أن أشهر الموازين روحانية‬
                                      ‫هو المحرك الأساس لانشغالاته‬      ‫«ميزان يوم القيامة» الذي توزن‬
   ‫لم يفطن له الفلاسفة أنفسهم‪،‬‬          ‫العلمية‪ .‬وعليه عمل في كتابه‬      ‫به الأعمال وعقائد العباد‪ ،‬وقد‬
  ‫وأراد أن يقيم على ادعائه شاه ًدا‬   ‫المستصفى من علم الأصول على‬          ‫استمده من العقيدة الإسلامية‬
‫عمليًّا فألَّف كتابه المسمى (مقاصد‬       ‫إرسال أصول الفقه ناضجة‬           ‫التي تتعلق بمجال السمعيات‪.‬‬
  ‫الفلاسفة) صور فيه الفلسفات‪:‬‬                                         ‫سعيًا إلى تأسيس منطق للاجتهاد‬
 ‫المنطقية والطبيعية والإلهية الذي‬         ‫بعد أن تحرر من كل تأثير‬
 ‫يشهد له ببلوغ مرتبة في الفلسفة‬     ‫أصولي سابق‪ ،‬كما عمل على مزج‬               ‫الفقهي لاستنباط الأحكام‬
‫تسمح له بإبداء الرأي فيها لها أو‬                                          ‫الشرعية‪ ،‬ركز الغزالي على ما‬
                                      ‫الاجتهاد بالمنطق فبرزت آراؤه‬
                         ‫عليها‪.‬‬        ‫عقلية تستند إلى نسق قياسي‬            ‫يسمى بـ»القياس المنطقي»‬
    ‫إن الغزالي حين ينتقد الفلسفة‬    ‫واستدلالي‪ ،‬وعليه جدد وابتكر في‬        ‫لضبط آلية الاجتهاد على وجه‬
  ‫في كتابه (تهافت الفلاسفة) فلا‬     ‫الكثير من المسائل بعدما مهد لهذا‬
     ‫يتوقع من قارئه إلا أن يكون‬       ‫المؤلف بمقدمة منطقية وضعها‬
    ‫على درجة من العلم بالفلسفة‪،‬‬         ‫قبل عرض الأصول‪ ،‬وجعلها‬
    ‫لذا يجب عليه أن يكون عار ًفا‬       ‫مدخ ًل له‪ ،‬بل‬
   ‫بالمنطق‪ ،‬ما دام هذا الأخير هو‬       ‫جعلها مقدمة‬
                                        ‫للعلوم كلها‪.‬‬
      ‫بداية التحرك نحو الفلسفة‪،‬‬
 ‫فمفروغ من أن من يريد أن يقف‬             ‫فالغزالي لا‬
‫منها موق ًفا بين مؤيد وهادم لا بد‬       ‫يعتبر المنطق‬
                                    ‫لصي ًقا بتحركات‬
       ‫أن يكون قد درس المنطق‪.‬‬         ‫الفلاسفة فقط‪،‬‬
     ‫وعليه‪ ،‬فالغزالي حين أراد أن‬    ‫بل لا يجد حر ًجا‬
‫يقوض الآراء الخاطئة في الفلسفة‬        ‫في التأكيد على‬
    ‫إنما أراد هدمها؛ ليبني قواعد‬       ‫أنه آلة ذهنية‬
     ‫الدين‪ ،‬ويقيمه على أسس من‬            ‫عامة تحقق‬
‫الحق‪ ،‬وهكذا وضع كتابه «تهافت‬           ‫المعرفة كيفما‬
   ‫الفلاسفة» ليهدم بعض آرائهم‪،‬‬
   132   133   134   135   136   137   138   139   140   141   142