Page 117 - merit agust 2022
P. 117

‫‪115‬‬  ‫الإبداع الكردي‬

     ‫قصــة‬

                                                                ‫محمد يوسف‬
                                                                       ‫(تركيا)‬

                                                        ‫مقبرة الأحياء‬

 ‫النوم‪ .‬وحين همم ُت بالدخول تعثرت قدمي وسقطت‪،‬‬             ‫بحجة الحفاظ على سلامة العامة‪ ،‬بلا سلاسل قيدوا‬
   ‫تأفف ُت قلي ًل وبدأت أعاتب الراحلين وألومهم‪ ،‬لشدة‬       ‫البشر خلف الجدران‪ ،‬فرضوا عليهم الالتزام داخل‬
       ‫سوء المنظر الذي رأيته نتيجة الأحكام الجائرة‪.‬‬     ‫البيوت لفترة محددة‪ ،‬وأنا أي ًضا كنت كالآخرين سجينًا‬
                                                           ‫داخل قصري‪ ،‬الذي تحول إلى زنزانة مرعبة لكثرة‬
‫أيعقل أن تكون هذه الكراكيب مهمة لهذه الدرجة حتى‬
 ‫منعنا من رؤيتها طيلة هذه المدة؟ أم أنها أمانة تخص‬                                       ‫دهاليزه وشعبه‪.‬‬
                                                              ‫لم أتوقع أب ًدا أن أعيش وحي ًدا ضمن هذا الفراغ‬
                                    ‫أناس آخرين؟‬             ‫الشاسع‪ ،‬كن ُت أتخبط هنا وهناك كمدمن خمر تنفذ‬
     ‫وبدأت أتمتم بكلمات عبثية دون وزن ولا تدقيق‪،‬‬
      ‫وبصراحة أكثر أنا نفسي لم أفهمها من هول ما‬                           ‫زجاجته‪ ،‬وهو يبحث عن بديل لها‪.‬‬
     ‫شاهدته من أشياء غريبة وعجيبة‪ ،‬كأنها مقتنيات‬          ‫كانت أعصابي تنهار شيئًا فشيئًا أمام عيني‪ ،‬لدرجة‬
    ‫من العصر الحجري‪ .‬لكن ما لفت انتباهي هو ذاك‬           ‫أصبح ُت أتشاجر مع أنفاسي المقرفة‪ ،‬كلما أستنشق ُت‬

       ‫الصندوق المغلف بالغبار‪ ،‬وللمرة الأولى دفعني‬               ‫رائحة الدخان الخارجة من صدري المحترق‪.‬‬
      ‫الفضول لأرى ما بداخله‪ ،‬انقضيت عليه كوح ٍش‬          ‫كعصافير جائعة كانت ألسنة النيران تقتات من فتات‬
‫كاسر وبنفخة واحدة أرعب ُت الغبار المتراكم عليه ليلوذ‬
   ‫بالفرار مسر ًعا‪ ،‬ثم ابتسم وجه الصندوق وأظهر لي‬          ‫صبري‪ ،‬وأنا مكبل بجنازير الطغاة المُ َحكمة‪ .‬لم يكن‬
‫لونه الذهبي‪ ،‬وبلمح البصر خلع ُت قفله المهترئ ورح ُت‬        ‫يملأ المكان سوى سكون مخيف وكأنه الموت بعينه‪،‬‬
    ‫أنبش أحشاءه حتى عثر ُت في أعماقه على صندوق‬             ‫أما ضجيج أفكاري فلم يكن يهدأ كأنه إزميل ينحت‬

                                         ‫صغير‪.‬‬                                                    ‫رأسي‪.‬‬
 ‫قلت في نفسي‪ :‬لاشك أن هذا الصندوق يعود لجدتي‪،‬‬           ‫أردت التخلص من رتابة هذا المشهد المتكرر‪ ،‬لكن كيف‬
‫لأنها كانت تحتفظ بأشيائها الثمية داخله‪ .‬وحين فتحته‬
  ‫وجد ُت داخله مظرو ًفا أسود‪ ،‬بدأ ُت أتحسسه وأخمن‬                                               ‫لا أدري؟‬
‫ما يحويه‪ ،‬لكن أصابعي لم تدع للتخمين أي مجال‪ ،‬بل‬                ‫فجأة وبلا تفكير مسبق قررت أن أنبش مقبرة‬
                                                            ‫الذكريات‪ ،‬وأتجول بين الكراكيب القديمة وأتصفح‬
       ‫كانت أسرع للوصول إلى تلك الصورة القديمة‪.‬‬          ‫تواريخها‪ ،‬ليس فضو ًل مني بل لأمضي بعض الوقت‬
  ‫نعم كانت توجد داخل المظروف صورة لطفل حديث‬                    ‫في أزقة الماضي‪ ،‬وأكسر حاجز الصمت القاتل‪.‬‬
   ‫الولادة‪ ،‬وكت َب خلفها تاريخ الولادة كام ًل مع اليوم‬      ‫وفع ًل بدأت أقرأ المعوذات الثلاث كاستعداد لبداية‬
                                                        ‫الرحلة‪ ،‬شعرت برهبة شديدة وبدأت نبضاتي تتسارع‬
     ‫والساعة‪ ،‬والغريب أنها لا تحمل اسم الطفل‪ .‬أما‬        ‫لأنها كانت المرة الأولى التي سأفتح ذاك الباب‪ ،‬ولأننا‬
    ‫الأكثر غرابة في الأمر كانت أسفل الصورة‪ ،‬بحيث‬          ‫شعب مطيع ونسمع الكلمة‪ ،‬كنا لا نتجرأ على مخالفة‬
   ‫قرأت عبارة من جملتين وهي “سامحني ياولدي”‪،‬‬            ‫الأوامر الصادرة من القمة‪ ،‬وطب ًعا كانت تقتضي بعدم‬
                                                           ‫الاقتراب من ذاك الباب‪ .‬وبما أنني آخر من بقي من‬
                  ‫وبعدها اسم الأب كام ًل وتوقيعه‪.‬‬
 ‫أنا لم أتعرف على اسم الأب ولم يسبق أن سمع ُت به‪،‬‬                ‫العائلة حيًّا‪ ،‬فيحق لي أن أتصرف كما أشاء‪.‬‬
                                                        ‫المهم أخذت نف ًسا عمي ًقا من الجرأة ومدد ُت يدي بهدوء‬
    ‫لكن ما أعرفه حق المعرفة‪ ،‬أن التاريخ الموجود على‬     ‫نحو مقبض الباب‪ ،‬كسار ٍق مرتبك يريد الدخول لغرفة‬
                       ‫الصورة هو تاريخ ميلادي!‬
   112   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122