Page 112 - merit agust 2022
P. 112
العـدد 44 110
أغسطس ٢٠٢2
فاضل متين
(كوباني)
العاجز
وجعلهم يرسمون مخطط الهروب في خيالهم تحت أشعة شم ٍس مشطور ٍة بمبضع غيم ٍة ربيعية
الفزع ،بدأت التكهنات تتدحرج على الألسنة مريرة، مكفه َّرة تغطي نصفها وتترك النصف الآخر منها
والاستحيطات تقام على قدم وساق مرتبكة ،وحالما يسربل دفئه على الموجودات الأرضية ،أسند أبو
بدأت الشائعات تميل روي ًدا روي ًدا نحو اليقين حتى
تحولت البلاد إلى ماء يغلي في ِقد ٍر ملتهب ،أعلن أبو آزاد السبعيني جذعه المتهالك على ضلع صخرة
آزاد بحس ٍم في البداية أنه لن يتزحزح عن بيته قيد مركونة جنب المغارة الصغيرة المطلة على قريته،
وبعد أن أخذ خفقان صدره يتهادى ببط ٍء ،است َّل
شب ٍر حتى لو رأى القذائف تسقط فوق يافوخه، من جيب شرواله البني الداكن كيس تبغه وحمل
قاط ًعا بذلك الطريق أمام ترجيات وتوسلات الناس
حفنة منه وصبها في اللفافة بيدين مرتعشتين
وأولاده ،قال بعناد الصخر المتشبث بموضعه، متوترتين من ضربات العمر وتعب المسافة التي
وبلسان التحدي العتيق فيه :شببت هنا وشيبت هنا قطعها مشيًا من أرض الخراب إلى فضاء الجبل
المنعزل .شرعت النسائم الرقيقة البرود تلاعب خيط
أي ًضا ،كيف ستسامحني شيبتي لو تركت شبابي دخان اللفافة ،تحركه ذات الشمال مكو ًرا وذات
وحده ينازع وحي ًدا ،إن تنازلت عن مسقط رأسي اليمين متشعثًا أمام عيني أبي آزاد الساهيتين عن
فإنني بذلك سأسحق ولادتي وطفولتي وذكرياتي كل ما هو حسي ،ما هو مرئي ،مادي ،لم تكن أذناه
وكبريائي ..وإذ أنهى سكت بف ٍّك يرتجف وحل ٍق يغلي تنصتان إلى وجيب قلبه وهو يد ُّق جدار صدره
بمطرقة الدم ،ولا عظامه تجاوبت مع سياط الهواء
ويتشقق من ثقل الكلام الثقيل الوطء. البارد ،إذ تحول إلى كتلة من الأحاسيس المتضاربة
نفدت الجمرة آخر بذرة تبغ من عقب اللفافة، والتوجسات المقلقة ،جعلته يسهو ع َّما هو خارج
ومعها تلاشت شبكة الدخان أمام بصره ،هدأ جسده ،ما هو مستقل عن داخله ،مقص ٌّي ،تتداعى
الصخب شيئًا فشيئًا في رأسه ،أمال رقبته على كتفه الأفكار السوداء عليه من الجهات قاطب ًة ،من كل
الأيسر وشرع يسرح بعينين ضامرتين نصف عض ٍو في جسده ،وكل هواء يمر به ،وحج ٍر ونب ٍت
مغشيتين في البعيد نحو قريته التي كانت تسبح
حزينة في ضبا ٍب كا ٍّب يفترش حقولها الخضراء وطي ٍر يحيط به.
وأمصارها المتشعبة .بدت سماء القرية من نقطة حينما سرت الشائعات والتخيمنات في المنطقة عن
ركونه مثقل ًة بالسحب القاتمة تنبئ بسقوط المطر، نيَّة الأتراك في التهام البلاد ابتدا ًء من قرى عفرين،
إذ تغذت حد الشبع منذ بضع ليا ٍل متواصلة كتل رسم الفزع لوحته الصفراء على وجوه القرويين،
الدخان الصاعدة من ال ِعفش المحترقة لبيوت القرية