Page 54 - TeacherAppendix
P. 54
ُحداء الإبل*
حضرت (الإبل) في حياة إنســان شــبه الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ ،ولم ُيستغ َن عنها حتى اليوم ،فبعد أن كانت
مظهــ ًرا لتميــزه وثرائه ،ومصد ًرا لرزقه وعطائه ،وأداة لســفره وترحاله؛ أضحت أيقونة ورمــ ًزا من رموز تراثه الأصيل
المستمد من تاريخه التليد ،ونتج عن هذا التواصل الإنسان ّي مع الإبل ،ف ٌّن جمي ٌل يتناقله المجتمع جياًًل بعد جيلُ ،يس ّمى
(ال ُحداء) ،وهو نو ٌع من الشعر الخفيف الذي ُيقال؛ لتطريب الإبل ،وح ِّثها على السير بتعابير شفهية تقليد ّية ُتم ّكن الرعاة
من مناداة إبلهم ،وجمعها والتواصل معها.
ويتــوارث أبنــاء الجزيرة العربية (ف َّن ال ُحداء)؛ للتواصل مع قطعان إبلهم من خلال بعض الأصوات والتعبيرات التي
اعتادت الإبل على سماعها والاستجابة لها ،وبحسب المصادر التاريخية ،فإ َّن ( ُم َضر بن نزار بن ُمع ّد) هو أ ّول من (حدا)
للإبل ،بعد أن ســقط من بعيره وانكســرت يده ،وصاح بصوته (وايداه! وايداه!) ،وكان حســن الصوت؛ فأصغت إليه الإبل
وج ّدت في ال ّسير؛ ومن هنا بزغت فكرة استعمال ال ُحداء؛ لنداء الإبل.
ويقال :أن بداية (ال ُحداء) كان عن طريق (التدوية) ،أو (الد ّواة) ،وهو نداء الإبل بصوت رفيع ،وجاء في بعض معاجم
اللغة أ َّن راعي الإبل إذا أراد أن يستح َّث إب َله؛ لتجيء إليه مسرعةَ ،ز َج َل بصوته وغ ّنى لها بكلما ٍت ،مثلَ ( :هيد هيد ،أو :هي
دو هي دو .أو :دوه دوه .أوُ :ده ُده بضم الدال .أو :داه داه) ،ومازالت هذه الكلمات مستعمل ًة إلى اليوم جن ًبا إلى جنب مع
الرجــز((( ،ولــم ُي ْل ِغ أحدهما الآخر ،وهو يختلف من بيئة إلى أخرى ،وتط ّور (ال ُّد ّواة) من مجرد همس أو صوت أو مناداة
علــى الإبل ،إلى غناء شــعري له طرقه وأســاليبه ومفرداته الخاصة ،ودخلت فيه -مع مــرور الزمن -المعاني والكلمات
الشعرية المغ ّناة ،والأشطر الموزونة ،فجمع عذوبة الصوت ،وسحر القافية المستمد من بيئة البدو وثقافتهم الأصيلة.
وم ّما ُيذكر في قوة تأثير ال ُحداء في الإبل ،أ َّن أبا جعفر المنصور سأل ح ّدا ًء ،فقال له :ما بلغ من ُحسن حدائك؟ قال:
ُتع ّطش الإبل ثلا ًثا ف ُتدنى من الماء ،ثم أحدو فتتبع كلها صوتي ،ولا تقرب الماء.
وقــد أ ّصلت المعاجم العربية ،وأمهات كتب التراث العربي لـــ ( ُحداء الإبل) ،كما تحتوي على ك ٍّم هائ ٍل من الحكايات
* النص من وكالة الأنباء السعودية( ،بتصرف).
((( ال َّر َج ُز بح ٌر من بحور الشــعر العربي ذات الإيقاعات الســريعة الخفيفة ،التي تتوالى فيه الحركات والســكون بوقع سريع ،وهو ُيشبه في ذلك ِر ْجل الناقة ورعشتها حين ُتصاب بداء (ال َّر َجز)،
فهي تتحرك وتسكن ،ثم تتحرك وتسكن ،ومن أمثلته قول نور الدين السالمي:
أ ْن ُي ْس َأ َل ال َعا ِلـــ ُم كال َّضعــي ِف ِم ْن َأ َد ِب ال ُّس َؤا ِل للعف يــ ِف
ولا ُيرى بال َّل ْيـ ِل في المنــــا ِم لا ُيور ُث ال ِع ْل ُم م َن ال أع َما ِم
والدر ِس في ال َّل ْي ِل وفي ال َّنها ِر لــك ّن ُه يحــ ُص ُل بالت كــرا ِر
54