Page 54 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 54

‫العـدد ‪27‬‬  ‫‪52‬‬

                                                      ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

    ‫الأمر إلى سدرة المنتهى‪ ،‬وكانت له البشرى بأنه‬       ‫معنوي ذو مقصد روحاني مقدس‪ ،‬اختص أسا ًسا‬
     ‫«محمدي المقام من ورثة جمعية محمد (ص)‪.‬‬             ‫بأسرار إلهية ومعان عرفانية‪ ،‬وهو أخي ًرا مختصر‬
                                                      ‫رحلة من العالم الكوني إلى العالم المختص بروحانية‬
   ‫فإنه صلى الله عليه وسلم آخر مرسل وآخر من‬           ‫الملائكة‪ ،‬وما يؤسس اختلافه عن المعراج النبوي هو‬
     ‫إليه تنزل‪ ،‬أتاه الله جوامع الكلم‪ ،‬وخصه بست‬
   ‫لم يخص بها رسول أمة من الأمم‪ ،‬فعم برسالته‬                                        ‫مفارقته للحس(‪.)62‬‬
  ‫لعموم ست جهاته‪ ،‬فمن أي جهة جئت لم تجد إلا‬            ‫هكذا يروي ابن عربي تفاصيل مغامرته الروحية‪/‬‬
  ‫نور محمد ينفهق عليك‪ ،‬فما أخذ أحد إلا منه‪ ،‬ولا‬         ‫رحلته المنامية إلى السماوات السبع فما فوقها على‬
  ‫أخبر رسول إلا عنه‪ ،‬فعندما حصل لي ذلك‪ :‬قلت‪:‬‬
‫حسبي حسبي‪ ..‬قد ملأ أركاني فما وسعني مكاني‬                 ‫لسان السالك الذي هو عينه‪ ،‬إذ في القسم الأول‬
    ‫وأزال عني به إمكاني‪ ،‬فحصلت في هذا الإسراء‬             ‫المتضمن لستة أبواب يقدم لنا شخصية رسول‬
‫معاني الأسماء كلها‪ ،‬فرأيتها ترجع إلى مسمى واحد‬        ‫التوفيق الذي يحضر السالك بدنيًّا وعمليًّا وعقائد ًّيا‬
   ‫وعين واحدة‪ ،‬فكان ذلك المسمى مشهودي وتلك‬               ‫لخوض تجربة المعراج‪ ،‬كما يضطلع بمرافقته في‬
‫العين وجودي‪ ،‬فما كانت رحلتي إلا ف َّي‪ ،‬ودلالتي إلا‬    ‫السموات السبع‪ ،‬أما في القسم الثاني فيروي قصته‬
                                                        ‫في السماوات السبع حيث كان يلتقي في كل سماء‬
                                       ‫عليَّ»(‪.)64‬‬       ‫سر روحانية أحد الأنبياء‪ ،‬وحاصل هذه اللقاءات‬
     ‫هكذا إذن حملنا معه الشيخ الأكبر على أجنحة‬          ‫استزادة السالك في العلم وتنعمه بالتعيين الولائي‬
    ‫الصحبة والخيال في سفر إسراري يكتب تاريخ‬             ‫والسيادة وإضافة السيادة للولاية (سيد الأولياء)‬
   ‫الذات‪ ،‬فيما هو يرتاد جغرافية الروح ليضع اليد‬           ‫إضافة إلى تعرفه على الغاية من المعراج الصوفي‬
   ‫على تلاوين اغتراب روحي جعل الصوفي‪ /‬الوالي‬           ‫وكذا على مقام محمد صلى الله عليه وسلم وفضله‬
    ‫ينفصل عن تاريخه الفعلي ليتحد بالمطلق الإلهي‬
 ‫حيث تنمحي تناقضات الواقع وإكراهاته‪ ،‬بذا نفهم‬                                       ‫على سائر الأنبياء‪.‬‬
    ‫كون «الولاية هي حرفيًّا القرب‪ ،‬لكن هذا القرب‬        ‫بعد السبع الطباق يصل السالك إلى سدرة المنتهى‬
  ‫مزدوج‪ :‬القرب من الله بحيث لا يكون الوالي وليًّا‬
     ‫بالكامل إلا إذا كان قريبًا أي ًضا من الخلق‪ .‬ابن‬       ‫فيترقى إلى الملإ الأعلى بعد أن يفد على حضرة‬
‫عربي يماهي الإنسان الكامل بالشجرة التي «أصلها‬          ‫الكرسي حيث قطب الشريعة‪ ،‬الذي سيزود السالك‬
    ‫ثابت وفرعها في السماء» (القرآن ‪ .)24 :14‬إن‬          ‫بوصية جامعة لكل الوصايا التي عكستها قصص‬
  ‫الولي بما هو علوي ودنيوي في الآن نفسه‪ ،‬يصل‬
      ‫الأعلى بالأسفل‪ ،‬الحق بالخلق تما ًما كالحقيقة‬        ‫الأنبياء في حياتهم‪ .‬بعد كل هذا المطاف يستكمل‬
   ‫المحمدية التي هو وارثها‪ .‬إنه برزخ بين بحرين‪.‬‬        ‫السالك تعليمه وترقيه من خلال ولوجه الحضرات‬
  ‫وإذا كان ضامنًا للنظام الكوني وراعيًا له وبالتالي‬   ‫الخمس‪ :‬قاب قوسين‪ ،‬أو أدنى‪ ،‬اللوح الأعلى‪ ،‬الرياح‬
 ‫أداة للرعاية الإلهية فإن وظيفته كيفما كانت رتبته‬
       ‫في السلم المساري هي بد ًءا أداة الرحمة التي‬                          ‫وصلصلة الجرس‪ ،‬وأوحى‪.‬‬
                                                        ‫وبالوصول إلى هذه الحضرة الأخيرة يتم تعريف‬
          ‫«وسعت كل شيء» (قرأن ‪.)65(»)156 :7‬‬
        ‫ملاك الأمر‪ ،‬إن رحلات الصوفيين الروحية‬              ‫السالك بنفسه أي بالإنسان ومكانته في الكون‬
         ‫وبخاصة رحلة ابن عربي‪ ،‬جاءت لتتجاوز‬           ‫[مناجاة التشريف] وبنعم الله عز وجل على الإنسان‬
   ‫الانحراف الذي يمثله الواقع بصراعاته‪ ،‬سلطاته‬
 ‫وتناقضاته‪ ،‬ومن ثمة فلا محيد لنا من اعتبار هذه‬             ‫السالك [مناجاة المنة] وبأسرار مبادئ السور‪،‬‬
 ‫الرحلات عتبة أساسية تنقلنا من الاغتراب في بعده‬       ‫وبعلو مقام محمد (ص) على كل مقام [مناجاة الدرة‬
  ‫المكاني‪ /‬الجغرافي إلى الاغتراب في بعده الوجودي‬
                                                                                            ‫البيضاء]‪.‬‬
                                      ‫المعرفي(‪)66‬‬            ‫أما القسم الأخير فيفرده ابن عربي لامتحان‬
                                                            ‫السالك‪ ،‬بحيث إن المنزلة التي وصل إليها من‬
                                                        ‫العلم والكشف فرضت وضعه تحت محك السؤال‬

                                                                ‫والمسألة ليختبر في الإشارات النبوية(‪.)63‬‬
                                                         ‫قد نتساءل أخي ًرا عما جناه ابن عربي من رحلته‬
                                                        ‫هاته فى الأكوان العلية لنجد الجواب لديه في مكان‬
                                                          ‫آخر من فتوحاته المكية حيث يثبت أنه انتهى به‬
   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59