Page 59 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 59

‫‪57‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

    ‫لدولة المهدي في معركة أم درمان‪ /‬السودان‪،‬‬            ‫ُتمارس عليه السلطة‪ ،‬وهذا يرجع إلى الاستئثار‬
‫وانتهاء بموته دون العلم إن كان غر ًقا أم انتحا ًرا‪،‬‬  ‫بأحقية السلطة‪ .‬ومن ث ّم‪ ،‬ينتقد الطيب صالح رؤية‬

           ‫وهو على وشك الإفصاح عن ماضيه‪.‬‬               ‫الأشياء بعين واحدة التي من شأنها خلق التوتر‬
                                                      ‫والتمييز العنصري؛ ولربما هذه هي الطريقة التي‬
    ‫الجنس وهوية التابع‬                                ‫اختارها كإهداء لقصة حياة مصطفى سعيد‪« ،‬إلى‬
                                                       ‫أولئك الذين يرون بعين واحدة ويتكلمون بلسان‬
  ‫يستمر الكاتب في إنشاء علاقات ضدية منذ بداية‬
 ‫الرواية تجعلها تعير نفسها باقتدار للقراءة ما بعد‬       ‫واحد ويرون الأشياء إما سوداء أو بيضاء‪ ،‬إما‬
  ‫الكولونيالية؛ فيضع «لندن» عاصمة الإمبراطورية‬                                    ‫شرقية أو غربية»‪.‬‬

    ‫التي لا تغيب عنها الشمس في مقابل قرية نائية‬                              ‫علاقات ضدية‬
‫مجهولة الاسم في شمال السودان‪ .‬وهنا‪ ،‬تظهر أكبر‬
                                                          ‫تظهر في الرواية أشد أنماط الصراع وضو ًحا‬
    ‫علاقة ضدية بسفر «مصطفى سعيد» إلى لندن‪،‬‬                ‫في الصراع بين الشمال والجنوب أو الأبيض‬
   ‫ألا وهي نزوح الجنوب نحو الشمال‪ ،‬وهو الأمر‬                ‫والأسود‪ ،‬البرودة والدفء‪ ،‬وكلها مرادفات‬
   ‫عكس المعتاد ‪-‬غزو الشمال للجنوب مثلما الحال‬        ‫للعلاقة بين المُستع ِمر والمُستع َمر‪ .‬فتط ّل على القارئ‬
   ‫في رواية جوزيف كونراد «قلب السواد»‪ -‬إلا أ ّن‬         ‫شخصية «مصطفى سعيد»‪ ،‬ذلك الطالب النابغة‬
   ‫ذلك الغزو يأخذ شكل التلاحم منذ مقابلته لمسز‬         ‫السوداني الأسود الذي يترك موطنه المُح َتل بحثًا‬
                                                      ‫عن العلم والفرص اللامحدودة في الغرب‪ ،‬في قلب‬
     ‫«روبنسن»‪ .‬يقول عنها «رائحة أوروبية غريبة‬          ‫الإمبراطورية البريطانية‪ ،‬لندن‪ .‬يقضي مصطفى‬
    ‫تدغدغ أنفي‪ ،‬وصدرها يلامس صدري‪ ،‬شعرت‬                  ‫سعيد وقتًا طوي ًل في الغرب ويعود إلى موطنه‬
‫وأنا ابن الاثنى عشر عا ًما بشهوة جنسية مبهمة لم‬      ‫فلا ًحا يعيش حياة هادئة في قرية نائية عند منحنى‬
‫أعرفها من قبل في حياتي»‪ .‬إن تلك الصورة لا تشي‬            ‫النيل‪ .‬ليست هذه هي الشخصية الوحيدة التي‬
 ‫بالارتماء في أحضان الغرب‪ /‬الشمال وإنما تفصح‬         ‫احتكت بالغرب‪ ،‬فها هو الرواي المجهول الذي ينال‬
 ‫عن تبادل الأدوار ليقوم «مصطفى سعيد» بتحقيق‬           ‫الدكتوراة في الشعر الإنجليزي‪ ،‬ولكنه على العكس‬
‫حلمه ‪-‬وإن كان بأسلوب بعيد عن الواقع‪ -‬ألا وهو‬             ‫من «مصطفى سعيد»‪ ،‬يعيش بروحه في الغرب‬
     ‫تحرير أفريقيا والسودان على وجه الخصوص‬           ‫رغم عودته إلى وطنه؛ فلا يندمج مع ثقافة أهله ولا‬
 ‫عبر غزوه للشمال‪ .‬يتمثل ذلك الغزو عبر استدراج‬           ‫يتمكن من تغيير أسلوب حياتهم التقليدي‪ .‬رغم‬
 ‫فتيات وسيدات؛ فيأتين إلى فراشه طواعية وينتهي‬
                                                                              ‫موت «مصطفى سعيد»‬
                ‫بهن الحال إما بالانتحار أو القتل‪.‬‬                               ‫في النصف الأول من‬
 ‫يدرك «مصطفى سعيد» حدود‬
                                                                           ‫الرواية‪ُ ،‬يكمل ذلك الراوي‬
    ‫هويته كرجل أسود؛ فيرى‬                                                   ‫المجهول روايته عن قصة‬
   ‫نفسه غاز ًيا يتسلق العقبات‬
                                                                              ‫«مصطفى سعيد» دون‬
      ‫التي تزداد مع كل خطوة‬                                                      ‫أن يثنيه شيء‪ .‬ومن‬
    ‫فيها ح ّدة التحدي‪ .‬ومع كل‬
‫خطوة ينجزها‪ ،‬يدخل في تخيّل‬                                                    ‫ث ّم‪ ،‬يتب ّدى لـ»مصطفى‬
     ‫كل أنواع الفنتازيا التي لا‬                                                  ‫سعيد» حضور طا ٍغ‬
  ‫يلبث أن ينسجها حول نفسه‬
                                                                               ‫يضعه في منزلة الرمز‬
      ‫وينسجها حول ضحاياه‬                                                     ‫أكثر منه إنسا ًنا حقيقيًّا؛‬
  ‫كالشباك للإيقاع بهن‪ .‬يهاجم‬                                                 ‫ابتدا ًء بمولده عام ‪1898‬‬
   ‫بل ويغزو «مصطفى سعيد»‬                                                     ‫الذي شهد هزيمة دموية‬
 ‫الغرب «جنسيًّا‪ ،‬ويقدم وص ًفا‬
                                                            ‫الطيب صالح‬
   54   55   56   57   58   59   60   61   62   63   64