Page 61 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 61

‫‪59‬‬          ‫إبداع ومبدعون‬

            ‫رؤى نقدية‬

‫ميشال فوكو‬                 ‫هومي بابا‬                   ‫بالطبع لا‪ ،‬هذه إجابة لا ترقى إلى البديهيات حتى‪،‬‬
                                                      ‫فتحرير الأوطان لا يتم على الفراش‪ ،‬وهو ما يأخذ‬
‫حاله يقول تلك الكذبة الكبيرة عن الشرق على وشك‬        ‫القارئ إلى ضرورة البحث في دواخل نفسية التابع‪.‬‬
  ‫أن تغتال الغرب في عذريته تشفيًا وانتقا ًما‪ .‬بل إن‬    ‫لقد تع ّرضت شخصية «مصطفى سعيد» في كثير‬
 ‫جرائم «سعيد» الانتقامية تمثل في حد ذاتها تفكي ًكا‬   ‫من النواحي للاستغلال من قبل القوى الأجنبية مما‬
  ‫وتدمي ًرا للنموذج الشكسبيري حول براءة الغرب‬         ‫دفع به إلى فقدان الشعور بالأمان‪ ،‬مما اضطره إلى‬
  ‫المتجسدة في «ديدمونة»‪ ،‬والشر الخالص المتج ّسد‬       ‫سلوك طرق جامحة تنتهي بالعنف والقتل‪ ،‬وهو ما‬
  ‫في «عطيل»‪ ،‬عبر ما يمكن تسميته «اغتصاب نساء‬         ‫يتماس مع شخصية «عطيل» في تراجيدية شكسبير‬
                  ‫المغت ِصبين‪ -‬مغتصبي الأرض»‪.‬‬
     ‫وعليه‪ ،‬يصبح القارئ قاد ًرا على استيعاب تلك‬          ‫الشهيرة‪ .‬على الرغم من أن كلتا الشخصيتين لم‬
 ‫المعضلة التي يقف الراوي أمامها في نهاية الرواية‪.‬‬        ‫تكونا على بينة من التعرض للاستغلال من قبل‬
      ‫لا يدري الرواي أ يعود إلى إنجلترا بما أنه لا‬      ‫القوى الخارجية‪ ،‬إلا أ ّن تلك القوى كانت السبب‬
    ‫يستطيع التماهي مع مجتمعه‪ ،‬ولكنه لا يلبث أن‬         ‫الرئيس حول تح ّولهما إلى ذلك النوع من الجرائم‬

‫يخاف شبح «مصطفى سعيد» وتكرار مأساته معه‪،‬‬                    ‫والانتهاكات‪ .‬ويظهر ذلك السبب الذي أودى‬
‫ولا يدري هل يبقى في وطنه الفقير الذي لا يستطيع‬             ‫بمصير كل منهما هو ذلك الصراع بين ثقافة‬
                                                     ‫الشرق وثقافة الغرب‪ ،‬والذي أخذ شك ًل استعمار ًّيا‪،‬‬
 ‫أن يفيده بشهادة الدكتوراه في الشعر الإنجليزي؟!‬      ‫وهو ما ع ّكر نفسية «مصطفى سعيد» بل وشوهها؛‬
                                                        ‫فلا يخرج من أي علاقة بامرأة إلا بعد انتحارها‬
                 ‫الجنس وهوية الشرق‬                        ‫أو قتلها‪ .‬لقد أتى «مصطفى سعيد» إلى إنجلترا‬
                                                      ‫بحثًا عن العلم والتنوير‪ ،‬ليفاجأ بأ ّن إنجلترا لا تقل‬
       ‫يلحظ القارئ حضور المرأة بشكل واضح في‬           ‫همجية عن السودان‪ ،‬كما ي ّدعي الغرب أنفسهم‪ .‬لا‬
   ‫الرواية‪ ،‬سواء كانت امرأة سودانية أو إنجليزية‪،‬‬     ‫شك أ ّن ذلك الاكتشاف ‪-‬همجية الغرب‪ -‬كان مخيّبًا‬

     ‫وإن كانت تظهر في كثير من الأحيان في مركز‬                                        ‫لآماله لأبعد حد‪.‬‬
    ‫متواضع؛ إذ يتم تصويرها إما كرمز جنسي أو‬              ‫يكمن الفرق بين «عطيل» و»مصطفى سعيد» في‬
                                                       ‫أن الأول لم يكن مدر ًكا بشكل كامل حدود هويته‬
                                                        ‫على عكس الثاني؛ فـ»مصطفى سعيد» على دراية‬
                                                       ‫كاملة بموقعه الثقافي والحضاري من الغرب‪ ،‬مما‬
                                                         ‫ينزله في منزلة «الآخر» الدونية ويجعله ُعرضة‬
                                                          ‫للاستغلال‪ .‬ابتدع كل من «عطيل» و»مصطفى‬
                                                      ‫سعيد» لنفسه مجموعة من الأكاذيب لسبب ما؛ في‬
                                                       ‫حين يريد «عطيل» أن يكسب تعاطف «ديدمونة»‪،‬‬
                                                          ‫يسعى «سعيد» من أجل إغواء النساء والإيقاع‬
                                                      ‫بهن‪ ،‬مخل ًفا بذلك انتحار أربعة منهن ومقتل واحدة‬
                                                         ‫«جين موريس»‪ .‬لم تخلق تلك الأكاذيب في حالة‬
                                                        ‫«مصطفى سعيد» تعاط ًفا من أي من تلك النساء؛‬
                                                     ‫فعلى العكس من ذلك لقد أحيا الأكاذيب التي نسجها‬
                                                          ‫الغرب عن الشرق‪ ،‬بل وجعلها مج ّسدة حقيقية‬
                                                      ‫وملموسة في غرفة نومه لتأخذ صور رائحة بخور‬
                                                     ‫الصندل‪ ،‬والفراش من ريش النعام ولوحات الغابات‬
                                                        ‫والأشجار التي ينثرها في كل مكان؛ وكأن لسان‬
   56   57   58   59   60   61   62   63   64   65   66