Page 74 - Baghdadiat-RightToLeft
P. 74
بغداديات 46 عودة اللقالق
في ارشيفي ذكرى بعيدة تعود لأواسط الث نينيات من القرن الماضي ح زرت اربيل عاصمة اقليم كردستان وشاهدت ذلك العش الكب جدا على قمة مأذنة المسجد القريب من قلعتها الشه ة. كان العش لطائر لقلق عملاق، بات واحدا من ساكني المدينة الوادعة المنقسمة ب آمال متعددة بعضها اسلامي وبعضها شيوعي في انتظار مستقبل لا يستطيع ابنائها التكهن به.
كان عش الطائر يكبر عاما بعد عام ومعه تكبر القصص التي يطيب للناس اضفاء طابع الغرابة والطرافة عليها، حتى لتعتقد ان لقلق اربيل اقدم من قلعتها ومسجدها، و يكن يزعج اهل اربيل اي شيء اك من سؤالك: متى جاء هذا اللقلق الى هنا؟ فهم يريدون منك ان تعتقد انه موجود هنا منذ الازل. يسيطر اللقلق على الزائر، فحيث تجول في ساحة المدينة او دار على بسطاتها التي تبيع قطعا صوفية ومنحوتات خشبية وصور لأطفال بديعي الج ل بزيهم الكردي المزركش، يشعر ان الطائر يراقبه من عليائه
بسرور، واذا ما اعتلى الزائر الطريق الدائري الصاعد الى القلعة البائسة جدا في حينه، تجده سينظر الى اعلى في اك من اتجاه ليتحقق ان اللقلق ما زال يشاهده.
واذا ما جلس الزائر الى مطعم ليأكل الكباب ويشرب ل اربيل فانه ودون اد شك سيختار مقعدا يستطيع من خلاله مواجهة هذا الطائر الضخم. يهاجر هذا اللقلق بداية الشتاءفينتظرهالاكرادطالباني وبرزاني وب َ ب ،بشغفلانموعدعودتههوالفلكالذيتسبحفيهاحتفالاتالن وز،ورغمانموعدالاحتفالاتمرقومومعروفالا ان المزاج الشعبي يل لربطه بعودة اللقلق الى عشه الذي يكبر عاما بعد عاما ويتموضع باستقرار عجيب فوق مأذنة المسجد.
يقول بعضهم انها هجرة عادية للبحث عن الدفء، ويقول بعضهم انه يذهب الى الاماكن المقدسة للحج، لا يأ الحج احيانا في الشتاء، ولا يتوافق التقويم الهجري للحج والميلادي للن وز لتصدق المقولة، ولكن طائرنا يحوز رتبة الحاج لقلق على السنة العامة. هجرت اللقالق مدينة اربيل بعد اندلاع الحرب ب ج عتي الزعيم الكردي مسعود بارزا وجلال طالبا عام 1994، واصابة لقلقها الشه برصاصة غادرة اخترقت عشه، واسقطته مضرجا بدمائه على ارضية المسجد الذي حمل اسمه، اسلم الروح وهو يراقب الهواء يعبث بريشاته المتهادية نحوه بت وج حزين، اسلم الروح وهو يعاتب المتقاتل بأبيات شعر سطرها الشاعر الاربيلي نزار فتاح عندما اختصر مأساة لقلق
أربيل بأبيات شعرية حفرت على جدارية معلقة بالجامع، تقول: زمان كنت أعيش مع آلام جراحاتكم، وأذرف الدمع لتاريخكم المصبوغ بالدم، كنت أحمل إليكم كل سنة بشرى نوروزكم، العشق منعني أن أفارقكم، ولكنني قتلت بأيديكم.....
يقول الكاتب الاربيلي ش زاد شيخا ان هذه القصيدة تذكره بـ »قصيدة اللقالق« الشه ة للشاعر الداغستا الأكبر رسول حمزاتوف، الذي ألفها باللغة الروسية، عندما زار »ساحة السلام التذكارية« لضحايا القنبلة النووية دينة ه وشي و ثال الفتاة ساداكو ساسا . كانت ساداكو بنت عام فقط عندما نجت من القنبلة، ولكن الاشعاع الذي اصابها اودى بحياتها وهي بنت اثني عشر ربيعا ونصف، وفي هي في المستشفى كانت تطوي الاوراق على هيئة ط مؤملة ان تكمل الالف، حتى تتحقق امنيتها
ك تقول الاسطورة اليابانية.
طوت المسكينة 644 طائرا فحسب قبل وفاتها، ثم أكمل أصدقائها طي الطيور المتبقية ودفنوها جميعها معها، وتحولت هي الى ثال يحمل طائرا ورقيا، قال فيه الشاعر الداغستا : يبدو لي أحيانا أن جنودنا الذين يعودوا من ميادين الوغى يخلدوا إلى أسرة المجد بل تحولوا إلى لقالق ورقية.
ذهب دم لقلق أربيل المهدور ظل وعدوانا، ومنذ ذلك اليوم يعد أي لقلق يعشش فوق مآذن الجوامع بأربيل. يقال ان محافظ اربيل وافق بعد ضغوط على فكرة اقامة نصب تذكاري لهذا اللقلق، ويقال ايضا ان لقالق جديدة متناثرة بدأت تفد الى ارض العراق. عودة اللقالق للمدينة مؤشر على الامان، فاللقالق لا تبني اعشاشها الا فوق المآذن والكنائس، فالأصل ان جوار هذين المكان سيكون آمنا وروحانيا، وهذا ما استلهمه الفنان العراقي المغترب محمود فهمي عبود في لوحته عودة اللقالق، لقد تفاءل
كث ا حتى سمح لطائر اللقلق ان يقترب اك فيبني عشه الكب فوق منزل، وسمح لفتاة بغداد ان تنام على سطح منزلها دون غطاء و نتهى الاطمئنان.
76