Page 96 - Baghdadiat-RightToLeft
P. 96

بنظري كان السعدون شارعا تجاريا متوحشا، واما الكرادة فشيء مختلف  اما، ما ان تبلغ نصب كهرمانة حتى تستوى قامة التاريخ، وتشاهده منتصبا على قدميه، وترى النحات محمد غني حكمت حارسا لهذا التاريخ، ومستحضرا علي بابا من الف ليلة وليلة، ليجسد الفتاة الشجاعة كهرمانة، واقفة تصب الزيت الحار من جرتها الكب ة على أربع  جرة تطل منها رؤوس أربع  لصاً. لا نظ  للبهجة التي كان يبثها شارع الكرادة، ولا مثيل للتعايش الذي كان سائدا في هذا الشارع، حيث المساجد والحسينيات والكنائس، وبقايا يهود وكث  من الكرد والعرب. في مطلع الكرادة تشكيليون وادعون يؤمنون بإلحاح ان الله محبة، حتى   يعودوا يذكرون دياناتهم ولا طوائفهم، يعيشون
في مراسمهم الصغ ة، يشربون ويرسمون ويبيعون لوحاتهم فقط اذا ساءت احوالهم وفقط لمن يقدرون انه سيقدرها.
اين ذهب هؤلاء الرائعون الغا ون ذوي الحضور الخفيف اللطيف، والصمت الحكيم، هل اغتالهم »فرانكشتاين في بغداد« طبقا لرواية السعداوي، ام دفنتهم انعام الكجه جي في مقبرة بالمنفى ووضعت شواهد قبورهم على خارطة افتراضية ك  في روايتها »طشاري«. في سوق الكرادة المسمى ارخيتة طاعنات في السن يفضن رحمة، حتى ليصبح كل المارين اولادهن، يبعن الخضار والل  وزنود الست والزلابية والكاهي والقيمر، امام متاجر يتصف اصحابها بالرحمة، ولكل من بضاعتهم إن اشتهى نصيب.
في الكرادة محلات ملابس أنيقة  ر أمامها الشباب مغازل  اي أنثى، وإناث يفضن شهوة، كل عراقي هو بالفطرة عاشق هز الهوى مهده، فصار شاعرا او مطربا، وكل عراقية تستطيع ان تكون عشتار حبيبها ومريم سواه. قالها الشاعر مظفر النواب وغناها الفنان رياض احمد: تعلل فالهوى علل .... وصادف انه  ل وكاد يشف لطيب منبعه .... ومانع الخجل عراقي هواي وميزة فينا .... الهوى خبل يرب العشق فينا في المهود .... وتبدا الرسل وامي ارضعتني من فرات حليبها ان الصلاة على تراب لا يوحد ليس تكتمل. لا احد  ل الس  في هذا الشارع الطويل المحاذي لدجلة الخ  ام البسات  ك  قال الجواهري، كان يلفظ العراق بع  مضمومة مرفوعة، لان عينه لا يجب ان تكسر. لعن الله من كسر قلوب امهات العراق، وادمى اجساد اطفاله واب  اع  رجاله.  ر بسرب طويل من البارات، حيث فريدة تجالس اختيها لؤلؤة وشهرزاد، لكل بار مطربه المفضل فهذا يتشدد لحميد منصور ويسمعك منه سلامات، وآخر يتحفك بعيون قلب نجاة الصغ ة وبتقريبها للبعيد، وذاك يتشدد فقط للعزيز ياس خضر باحثا عن طعم ليل بنفسج النواب، وتائبا من الحلو الكذاب، ورائحا غاديا مع قطار حمد، باكيا قرب ام الشامات، او لإم كلثوم حائرة ساهرة فاكرة صابرة، ذكريات وآهات ووعد بلقاء الغد الآت. تعبر المطاعم التي تفيض خ ا ولا تتفاضل الا في الخيار الصعب ب  السمون وخبز التنور. فمحلات الجزارة والخضار والطرشي القادم من النجف مختالا في بستوكات، لتقف امام الس اميك وهو يشهد على ابداع الانامل، وينبض بقلب صانعه. قد تنحرف  يناً فتبلغ نهر دجلة وقد تستمر قدما فتبلغ جسر الجادرية وجامعة بغداد، قد تتعب فتجلس على احد المقاهي، حيث لا مثيل لاستكانة الشاي وأصالة الناس ومتعة الأحاديث، اذا سرح خيالك وحلق سيصطدم بالمتنبي بالسياب وس تد سومريا اشوريا بابليا عباسيا...... تعود من سرحة الخيال لتجد انك استحضرت معك كل الازمان.... وانك تشمها وتلمسها في صوت حس  الاعظمي وهو يندب وفراقهم بكا ....
الكرادة   تعرف الملل يوما، قد ها يعانق جديدها، ويسبحان معا بحمد خالق واحد أحد، ساكنها يرحب بوافدها، ويتسامران ليلا طويلا يقصره الانسجام. في ذلك الشارع عاش حميد الربيعي، و  يكن  قدوره ان يكتب هذا لأنه يرفض وضع رأسه في الرمال مثلنا، كان سيكتب سردا غرائبيا عن ولادة كهرمانة شجاعة، تنتج من  ازج الخمر في احمر خانة، واحمر دماء الضحايا، واحمر علم الثورة لتسكب الزيت الحار على اوكار تجار الدين ولصوص الشرائع. لتتحول الى تن  يحرق خطابات السياسي .   يضع راسه في الرمال ايضا ح  هجم ف وس كورونا، كتب يومها: نحن بأمس الحاجة الى عا  اخر، تسوده القيم والاخلاق والمبادئ الانسانية. مرض كورونا كشف كل المستور من التاريخ
الطويل، الذي مر الانسان به، حيث اصبح يواجه مص ه الفردي بنفسه وليس  ة انظمة )عادلة( تحميه او تقية شر ما يخطط له رأس ل وعولمة الانظمة السائدة الان.
ان الاستمرار بهذا النظام العالمي سيقود البشرية الى التعاسة والتهلكة، ولابد من بحث عن مخرج اخر ، يعيد الى الحياة رونقها وبهاءها ويجعل من الانسان قيمة ، بعيدا عن التلاعب  ص ه بشكل اهوج من قبل افراد او شركات او حكام اغبياء وطغاة . ان العودة الى الخليقة الاولى والتي يكون الانسان فيها هو المحور، من ناحية وجوده وحاجاته وامانيه في عا  جديد، تسوده العدالة , هي المسعى القادم للنظام العالمي. انها دعوة لان يلتقي الحك ء والمصلحون والمثقفون لانقاد البشرية م  هي سائرة نحوه. وداعا حميد الربيعي، اشعر اننا التقينا فعلا ، رغم ان راس احدنا كان في الرمل، في  رأس الآخر مشغولا في اظهار مدى غرابة الواقع.
98


































































































   94   95   96   97   98