Page 26 - مجلة تنوير 3
P. 26

‫لجنة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا‬                          ‫المجلس الأعلى للثقافة‬

                                                                                                          ‫مجلــــــــــــــــة‬

‫هـي طفولـة مصـر المعاصـرة‪ ،‬وصبـاه وشـبابه فـي إذ التحـق بمدرسـة الإسـماعيلية الأهليـة الثانويـة‬

‫الثلاثينيـات والأربعينيـات هـي صبـا مصـر ال ارهنـة بحـي السـيدة زينـب‪ ،‬وأتـم د ارسـته الثانويـة فـي‬

‫وشـبابها‪ ،‬مصـر التـي تسـتعيد نفسـها وروحهـا‪ ،‬مدرسـة الحلميـة الثانويـة الكائنـة بالقـرب مـن حـي‬

‫وتحـاول العـودة للحيـاة والحريـة والاسـتقلال‪ .‬مصـر القلعـة وسـط القاهـرة‪.‬‬

‫وفـي هـذه المـدة الزمنيـة بـدأ يتشـكل وعـي محمـود‬                   ‫التـي تشـتاق لمصـر التـي تعـج بال ُكَتّـاب والقـَّارء‪،‬‬
‫أميـن العاِلـم مـن خـال منـزل الأسـرة والمدرسـة م ًعـا؛‬             ‫الروائييـن والشـع ارء‪ ،‬الملحنيـن والمطربيـن‪ ،‬النحاتيـن‬
‫إذ إن والـده معلـم أزهـري وفـي البيـت مكتبـة تضـم‬
‫أمهـات الكتـب‪ ،‬وأخويـه طالبـان بالأزهـر‪ ،‬أكبرهمـا‬                   ‫والرسـامين‪ ،‬الذيـن يحاولـون أن يعيـدوا للحيـاة‬
‫«شـوقي العاِلـم» ذلـك المتمـرد الـذي ثـار علـى نظـام‬
‫التعليـم والد ارسـة فـي الأزهـر‪ ،‬ووصفهـا بالد ارسـة‬                 ‫بهجتهـا ورونقهـا‪ ،‬ويعيـدوا للوطـن روحـه التـي فقدهـا‬
‫العقيمـة التـي لا تعمـل علـى نهضـة الأمـم وتقدمهـا‪،‬‬
‫فهي لا تخاطب العقل والإبداع بل تقوم على الحفظ‬                       ‫فـي عصـور الاسـتعمار والانحطـاط‪ .‬إَّنهـا بحـق‬
‫والتلقيـن‪ ،‬ولـم يكتـف بهـذا النقـد أو ذاك الاعتـ ارض‪،‬‬
‫ولكنـه أّلـف كتاًبـا أسـماه «الأزهـر فـوق المشـرحة»‬                 ‫مرحلـة أ ّمـة تتطهـر مـن دنـس المحتـل الغاصـب‬
‫فمـا كان مصيـره إلا أن ُف ِصـ َل مـن الأزهـر كمـا‬                   ‫الـذي لـن يـدوم مكوثـه طويـاً حتـى ينجلـي وتنقشـع‬
‫ُف ِصـ َل مـن قبلـه الإمـام محمـد عبـده عندمـا أقـدم‬
‫علـى نقـد نظـام التعليـم والد ارسـة بالأزهـر‪ .‬وفـي ظـل‬              ‫الوطـن‬  ‫ليتطلـع‬  ‫كافـة ربـوع الأمـة؛‬  ‫إلغـمىتـهغـتٍدما ًممـاشـعرـٍقن‬
‫هـذا المنـاخ النقـدي نمـت وترعرعـت الحاسـة النقديـة‬                                  ‫ومسـتقبل أفضـل‪.‬‬
‫عنـد محمـود العاِلـم تحـت تأثيـر أخيـه الناقـد والناقـم‬
                                                                    ‫وهـذا الغـد المشـرق والمسـتقبل الأفضـل هـو مـا‬
           ‫علـى نظـام الد ارسـة والتعليـم بالأزهـر‪.‬‬                 ‫دفـع الشـيخ الأزهـري الوالـد «أميـن العاِلـم» أن ُيلحـق‬
                                                                    ‫ابنـه بالمدرسـة المدنَّيـة لتؤهلـه للالتحـاق بالجامعـة‬
‫أ َّمـا الأخ الثانـي فقـد كان ضريـًار‪ ،‬وكان فـي‬                     ‫المصريـة التـي ضمتهـا الحكومـة المصريـة إليهـا‬
‫حاجـة ماسـة لمـن يقـ أر لـه ُكتـب الحديـث والسـيرة‬                  ‫عـام ‪1925‬م‪ ،‬أي بعـد ميـاد الفتـى بسـنوات ثـاث‪،‬‬
‫والفقـه وأصـول الفقـه والتاريـخ‪ ..‬وغيرهـا مـن‬                       ‫علـى خـاف أخويـه اللذيـن التحقـا بالأزهـر؛ لأَّنـه‬
‫المقـر ارت الد ارسـية بالأزهـر حينـذاك‪ .‬وكان العاِلـم‬               ‫أدرك بفطرتـه أ َّن الدولـة الجديـدة التـي سـتحررها‬
‫بمثابـة عينـ ّي أخيـه اللتيـن يقـ أر بهمـا‪ ،‬فا َّطلـع العاِلـم‬      ‫الثـورة مـن الاحتـال البريطانـي‪ ،‬سـتكون فـي حاجـة‬
‫علـى هـذه المقـر ارت‪ ،‬ولكنـه لا ينجـذب ‪ -‬مـن‬                        ‫ماسـة إلـى مـن يتولـى إدارة شـئونها مـن أبنائهـا‪ ،‬بعـد‬
‫كل تلـك الأدبيـات ‪ -‬إلا إلـى التصـوف‪ ،‬وليـس‬                         ‫أن يجلـو جيـش الاحتـال ومعـه جيـش الأجانـب‬
‫التصـوف «المعتـدل» الـذي يـذوب فيـه المتصـوف‬                        ‫الذيـن يحتلـون وظائـف الإدارة الوسـطى والعليـا(((‪.‬‬
‫فـي نـور الله وتكـون لـه إشـ ارقات‪ ،‬ولكنـه ينجـذب إلـى‬
                                                                    ‫فالتحـق محمـود أميـن العاِلـم ‪ -‬بعـد أن تعلـم‬

                                                                    ‫مبـادئ القـ ارءة والكتابـة وشـيًئا مـن القـرآن الكريـم‬
                                                                    ‫فـي ُكَتّـاب الشـيخ السـعدني بمدخـل حـارة السـك َرّية‬
                                                                    ‫‪ -‬بمدرسـة الرضوانية الأولية ثم بمدرسـة النحاسـين‬

                                                                    ‫الابتدائيـة بحـي الجماليـة‪ ،‬ثـم واصـل تعليمـه الثانـوي‬

‫التصوف الفلسفي وخاصة تصوف «الحلاج» ذلك‬                              ‫(((صــاح عيــى‪ ،‬أهــل العلــم وأهــل السياســة‪ ،‬مجلــة أدب ونقــد‪،‬‬
‫المتمـرد علـى الطقـوس الشـكلَّية فـي الديـن‪ ،‬والـذي‬                 ‫تص�دـر ع��ن حزــب التجمـع الوطنيــ التقدمـ�ي الوحدــوي‪ ،‬السـنة‬

                                                                         ‫الخامسـ�ة والعـشرون‪ ،‬العـ�دد ‪ ، 283‬مــارس ‪ ،2009‬ص‪.27‬‬

                                                                ‫‪26‬‬
   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31