Page 265 - m
P. 265

‫‪263‬‬  ‫ثقافات وفنون‬

     ‫حوار‬

    ‫بلون البحر‪ ،‬جاء به أبي من‬      ‫موضوع إثارة إلى عنصر مقدس‬                 ‫مثل كل متطلبات الحياة‪،‬‬
‫البصرة‪ ،‬كنت ألقاه حالما أستيقظ‬     ‫أسطوري لا معنى له غير الحياة‬              ‫وأسبابها‪ ،‬كانت المرأة في‬
                                    ‫البيضاء‪ ،‬حياة خام بلا صفات‪.‬‬          ‫حياتي‪ ..‬كتبت عنها ورسمتها‬
   ‫وأفتح عيني مملو ًءا بالحليب‪،‬‬                                           ‫أينما يلزم الأمر‪ ،‬واحدة من‬
‫وإذا لم ُيملأ حتى الخط الأزرق‪،‬‬        ‫فطمتني أمي مبك ًرا‪ ،‬فتلقفتني‬           ‫مسلمات الوجود وشرط‬
‫أقلبه وأقلب الدنيا وأنزل السماء‬           ‫أحضان نساء دافئة تنعم‬              ‫من شروطه‪ ..‬كتبت يو ًما‬
                                                                          ‫(المرضعات) يلخص علاقتي‬
                    ‫بصراخي‪..‬‬         ‫بالطمأنينة‪ ،‬تكثر فيها الهدهدة‬    ‫بالمرأة وأعتقد أنه أفضل ما أختم‬
       ‫معنا عاش عمي وزوجته‬               ‫والقصص والدلال؛ عمتي‬             ‫به معك أيتها المرأة الفاضلة‪.‬‬
       ‫“رفيعة” التي جاؤوا بها‬            ‫وأخواتي الأربع‪ ،‬وجدتي‪.‬‬        ‫«لا أتذكر سن َّي رضاعتي! وهل‬
       ‫صغيرة من أعماق الهور‪.‬‬                                             ‫من امرئ يتذكر تلك الأوقات‬
    ‫رفض رحمها أن يحبل‪ ،‬كما‬          ‫فطن ُت على أبقار في المراح خلف‬    ‫التي يستسلم فيها لتدفق المصل‬
  ‫عجز الولاة وأصحاب الشفاعة‬           ‫البيت‪ ،‬وكن أولى مرضعاتي؛‬         ‫الأبيض الماسخ في فمه‪ ،‬تسري‬
      ‫وقضاة الحوائج عن تلبية‬          ‫ُتحلب صبا ًحا ومسا ًء‪ ،‬تجلب‬        ‫في لثته العارية دغدغة الحلمة‬
‫تضرعاتها ونذورها وتوسلاتها‪.‬‬                                               ‫الطرية المنقوعة بالحليب‪ ،‬ثم‬
    ‫كانت نفسها بطفل‪ ،‬طفل من‬         ‫لهن الفلاحة “دليلة” الحشيش‬         ‫مكابدة النعاس والاستسلام له‬
     ‫غير شروط‪ ،‬طفل فقط يملأ‬             ‫والجت كل يوم من مزرعة‬           ‫فيما الحليب يتدفق؟ ليس غير‬
 ‫حضنها ويرضعها ويدر الحياة‬              ‫قريبة عبر الساقية الكبيرة‪.‬‬      ‫الحليب يحيل نهد الممرضة من‬
‫في عروقها اليابسة؛ فكنت حلمها‬
   ‫الواقعي الحي‪ ،‬المفطوم لتوه‪،‬‬       ‫كانت العناية بها تفوق العناية‬
‫الذي حقق لها أمنيتها المستحيلة‪.‬‬              ‫بنا‪ ..‬البقر بمقام آلهة‪.‬‬
      ‫كانت ترضعني بلا حليب‪،‬‬
  ‫مؤمنة بما قالت لها الع َّرافات؛‬     ‫فطنت على ِق ْدر صغير مزجج‬
   ‫الإرضاع يفتح البخت المغلق‪،‬‬      ‫بالأبيض يطوق حافته خ ٌط أزرق‬
‫ويخصب الجسد ويحفزه‪ ،‬يوهم‬
     ‫الأرواح الشريرة ويبعدها‪،‬‬      ‫هو وقرينه‬
 ‫ويجلب الحظ إلى الرحم العاقر‪.‬‬
    ‫فكانت ترضعني كلما يئست‬
   ‫من رحمة الزمان‪ ،‬ع َّل النبوءة‬
     ‫تتحقق فع ًل‪ .‬عمليًّا رضع ُت‬
  ‫صد ًرا جا ًّفا‪ ،‬حلمة يابسة‪ ،‬لكن‬
   ‫الأكثر غزارة في حضنها كان‬
   ‫الحنان والحب الذي لم أشبع‬
 ‫منه يو ًما‪ ..‬كانت “رفيعة“ روح‬
‫من أهل الله ظلت في رحابه تلهج‬
    ‫باسمه‪ ،‬فرزقها الله ول ًدا بعد‬
  ‫أربعة عشر عا ًما من الإرضاع‬
 ‫والتضرع‪ .‬لا ب َّد أني كنت سببًا‬
 ‫من الأسباب؛ لكنه سبب كسول‬

         ‫تأخرت نتيجته طوي ًل»‬
   260   261   262   263   264   265   266   267   268   269   270