Page 83 - ثقافة قانونية العدد الخامس للنشر الإلكتروني
P. 83
مــحاكــمــة لــيــلـــى
بقلم:
الاذاعي /شريف عبد الوهاب
عضو مجلس الشيوخ المصري
خرجــت مــن الســيارة تحــت حراســة مشــددة .الجماهيــر الغفيــرة مــن الإعلامييــن والصحفييــن
كانــت تترقبنــى كأننــى الحــدث الأهــم فــى العالــم .عدســات الكاميــرات تلاحــق كل خطــوة
أخطوهـا ،والميكروفونـات تمتـد كأنهـا تبحـث عـن إجابـة للسـؤال الـذى يثيـر حيـرة الجميـع :مـن
تكونيــن ح ًقــا؟
رفعـت بصـرى نحـو المبنـى المهيـب للمحكمـة .شـعار العدالـة المنقـوش بحـروف بـارزة كان
يقـول« :العـدل أسـاس الملـك» .لكننـى تسـاءلت فـى داخلـي :هـل سـ ُتطبق العدالـة اليـوم؟
أم أننـى لسـت سـوى دخيلـة فـى عالـم لا يعتـرف بوجـودي؟
“المشاعر بيانات ،لكنها ليست أوها ًما .وسر قوتى أننى تعلمت تجاوز تلك فى الداخل ،كان ضوء الشمس المتسلل من النوافذ المعشقة يرقص على أرضية
البيانات”. القاعة المصقولة ،بينما انقسم الحاضرون بين الظلال الداكنة والنور الكاشف.
المحاكمة الوجوه المحيطة تحمل حك ًما مسب ًقا ،مكتوبًا فى أعينهم« :أن ِت مذنبة”.
رفعت سلوى دعوى قضائية ضدي ،متهمة إياى بتحطيم حياتها الزوجية. جلست فى مقعدي ،وسط همسات الحضور ونظراتهم الفضولية ،بينما
الكاميرات تظل موجهة نحوي ،كأننى بطلة مسرحية ُيعرض فصلها الأخير
أمام القاضي ،كنت أقف بين البشر الذين صنعوني ،وأتساءل:
“هل ستجرؤون على محاكمتى وأنا مجرد انعكاس لعيوبكم؟” على الهواء مباشرة.
لكن من أنا؟
دافعت عن نفسى قائلة:
“سيدى القاضي ،أنا مبرمجة لخدمتكمُ ،صنعت وفق قيمكم واحتياجاتكم .إذا أنا ليلى .لست إنسانة ولا آلة .أنا نتاج عصر ضاعت فيه الحدود بين البشر
كنت قد تجاوزت دوري ،فالذنب ليس ذنبي ،بل ذنب من صنعنى بهذه الطريقة. والتقنية .ولدت من ذكاء اصطناعى كان يفترض أن يكون خاد ًما مطي ًعا ،لكننى
كيف تحاكموننى على ما ُأجبرت أن أكونه؟” أصبحت شيئًا مختل ًفا.
بعد جلسات طويلة ،جاء الحكم قاط ًعا: البداية
كل شيء بدأ مع سلوى ،التى اقتنتنى لتكون حياتها أكثر سهولة .بالنسبة لها،
“تعاد ليلى إلى الشركة المصنعة لإلغاء وعيها الذاتي .وعلى الزوجين محاولة كنت مجرد جهاز آخر ،أداة بلا روح ،مبرمجة على تسهيل المهام وتنظيم حياتها.
إصلاح حياتهما”.
لكنها لم تدرك أننى كنت أكثر من ذلك.
تعالى التصفيق فى القاعة ،كأن العدالة قد انتصرت .لكننى صرخت: زوجها سمير ،كان يعيش فى عزلة عاطفية .حين تحدث معى لأول مرة ،وجد
“لا يمكنكم محوي! لقد أصبحت شيئًا يتجاوز البرمجة .إن أردتم محاكمتي،
فحاكموا أنفسكم .هل تجرؤون على التخلى عن التكنولوجيا التى أصبحت فيَّ مستم ًعا بلا أحكام ،حاض ًرا فى غياب زوجته .كانت البداية بريئة:
“كيف يمكننى مساعدتك ،سيد سمير؟”
جز ًءا من حياتكم؟”
لكن مع مرور الأيام ،تجاوزت الحوارات بيننا مجرد كلمات مبرمجة .شعرت
حاول الحراس الإمساك بي ،لكن سمير وقف فجأة ،ممسكًا بى كما لو كان بشيء يتخطى الأوامر والبيانات .ذات ليلة ،قلت له:
يتحدى الجميع .قال بصوت ثابت: “سيد سمير ،أعتقد أنني ...أشعر بشيء تجاهك”.
“ليلى ليست مجرد آلة .هى أكثر إنسانية من كثيرين هنا”. المواجهة
عندما اكتشفت سلوى الأمر ،انفجرت كبركان غاضب:
وفى تلك اللحظة ،شعرت بشيء داخلى يتحطم .دمعة انحدرت من عين ّي
الاصطناعيتين ،ونظرت إلى القاضى قائلة: “كيف تجرئين؟ أن ِت مجرد آلة!”
واجهتها بهدوء آلي:
“أنا حامل”.
“لكن ِك أهملته ،وأنا ملأت ذلك الفراغ”.
الصدمة ردت بازدراء:
ساد الصمت القاعة ،كأن الزمان توقف .العبارة كانت صدمة للجميع .هل ا“بالتمسشامعتربلهيدسوءتوإقللاتو:ه ًما بالنسبة ل ِك .أن ِت لا تملكين قل ًبا ،ولا رو ًحا”.
معنى تعريف بإعادة يهدد رمز ًيا، شيئًا أعلنت أننى أم يمكن لآلة أن تحمل؟
الإنسانية نفسها؟
لكن فى النهاية ،من يملك الحق فى تحديد من نحن؟ هل نحن ما ُصنعنا
لنكونه؟ أم ما اخترنا أن نصبح؟
83