Page 61 - merit 50
P. 61

‫‪59‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

  ‫النوم‪ ،‬أعطي الماء والدواء أحيا ًنا‪ .‬كانت «إيزيس»‪،‬‬                  ‫الميدان‬
 ‫وهذا كان اسمها في ذهني‪ ،‬تحرس المكان كل يوم‪.‬‬
‫أشعر بوجودها وإن لم تكن موجودة‪ .‬أحيا ًنا تحدث‬               ‫كان الميدان مك َّد ًسا في تلك الظهيرة‪ .‬انشغلت‬
  ‫محاولات اقتحام من بعض المغامرين والمتسكعين‬              ‫بتدوينتي اليومية‪ .‬تعليقات قرائي تشعرني أن‬
 ‫والوحيدين في قلب الليل‪ .‬كان يتم التصدي لها مع‬         ‫كلماتي تطرق على أبواب موصدة فتفتحها‪ .‬الوطن‬
  ‫إحداث أقل قدر ممكن من الجلبة‪ .‬ويقتصر دوري‬              ‫كله يفتح قلبه للشمس والهواء‪ .‬بادرتني عجوز‬
                                                        ‫بالكلام كي أعينها على فتح زجاجة مياه‪ .‬جلست‬
     ‫ساعتها على تهدئة الداخل وطمأنة المعتصمين‪.‬‬          ‫بجواري تحدثني عن الوطن زمان‪ .‬العجوز تفخر‬
‫في طريق العودة للبيت اصطحبتني «إيزيس»‪ .‬اتفقنا‬          ‫بأمجاد أسرتها‪ .‬لم تبخل بمشاركة الوطن لحظاته‬
                                                           ‫الحاسمة كما نفعل الآن‪ .‬استمعت إلى كلماتها‬
  ‫على شراء طعام وأغطية وبعض المواد الطبية‪ .‬كان‬         ‫المشبعة بروائح لم آلفها‪ .‬أعرف أنني خارج جلدي‬
  ‫المال متوف ًرا معها دائ ًما‪ ،‬من جيبها ومن التبرعات‬  ‫في هذه اللحظة‪ .‬أعرف أنني في مساحة حلم تحدها‬
                                                      ‫أجساد بشر لا أعرفهم في واقعي‪ .‬لكنني أعرفهم في‬
      ‫داخل وخارج الميدان‪ .‬نحن نكسب أرضية في‬
 ‫الشارع تتسع يو ًما بعد يوم‪ .‬سألتها عن دراستها‬                                                ‫حلمي‪.‬‬
‫العليا‪ .‬تحضر رسالة ماجستير عن حقوق الإنسان‪.‬‬                 ‫أصبح لي رفقاء‪ ،‬كرفقاء السلاح‪ .‬نواجه ظلم‬
‫تفخر بإنجازاتها مع أهل النوبة وأقباط المنيا وأرامل‬      ‫العالم على نغمات جيتار‪ .‬نتحلق حوله كمجموعة‬
 ‫الزواج الصيفي‪ .‬كانت متحمسة‪ ،‬مزاجية‪ ،‬عدوانية‬               ‫بشرية تستعيد بدائيتها البكر وتحلم ببدايات‬
                                                      ‫قديمة‪ .‬كنت ألتحف ال َع َلم كشارة ودرع‪ .‬غيري كان‬
    ‫عند الاستفزاز‪ ،‬ورقيقة عند المزاح‪ .‬أحيا ًنا أشعر‬      ‫يرتدي كوفية النضال التقليدية‪ .‬ال َع َلم كان غالبًا‬
‫بعجزي عن مجاراتها في حماسها‪ .‬كنت أشعر بثقل‬              ‫على ملابسنا وحول معاصمنا وداخل نن عيوننا‪.‬‬
                                                         ‫أو هكذا كنت أرى‪ .‬الفتيات يضعن في شعورهن‬
                 ‫سنوات عمري الثلاث والثلاثين‪.‬‬            ‫المسدلة وأغطية شعورهن المزركشة ألوان ال َع َلم‬
‫لم تكن القبلة الأولى تعبي ًرا عن الحب أو الشبق‪ .‬ولم‬    ‫الثلاثة‪ .‬يطلين بها أظافرهن‪ .‬يضعنه على شاشات‬
 ‫تكن إذعا ًنا مني لوطأة حرمان يغلف جسدي الذي‬              ‫هواتفهن‪ .‬كنت سعي ًدا بالامتداد خارج وجودي‬
                                                        ‫الذكوري في مساحة نتساوى فيها ونساهم دون‬
   ‫يخترق حاجز الزمن الذكوري بتؤدة‪ .‬كانت قبلة‬              ‫تمييز كروموزومي‪ .‬تعرفت على فتاة في أواخر‬
   ‫خوف ورعب من الآتي‪ .‬في لحظة كانت الأجساد‬                ‫العشرينات في إحدى أمسيات المبيت في الميدان‪.‬‬
                                                       ‫كانت فاتنة بملامحها المصرية الإيزيسية وشعرها‬
     ‫الجريحة تنهمر علينا كسيل لا يتوقف‪ .‬تحملها‬           ‫الأسود المتماوج بلا مبالغة ولا حياء‪ .‬كانت تمر‬
   ‫الدراجات النارية وعربات الإسعاف‪ .‬كنت أعاون‬          ‫بين الناس تلبي حاجاتهم من الماء والسندويشات‪.‬‬
  ‫في تخييط الجروح وإيقاف النزيف‪ .‬لم أكن أعرف‬               ‫أعجبت بحيويتها وثباتها‪ .‬لم تكن تخاف حين‬
                                                        ‫تسمع جلبة أو يصرخ أحدهم بالعثور على سلاح‬
     ‫كيف أؤدي عم ًل لم أتدرب عليه‪ .‬لكنها اللحظة‬          ‫أو عند سماع طلقات‪ .‬كانت تهدئ روع ساكني‬
  ‫الفاصلة بين الحياة والموت‪ .‬لا وقت للتريث وفتح‬          ‫الميدان‪ .‬في الليلة التي تعرفت عليها فيها كنت قد‬
‫كتاب القواعد‪ .‬فاجأتني قبلتها ولم أشعر بمتعة قدر‬       ‫انخرطت بشكل كامل مع مجموعة الحماية‪ .‬لم أكن‬
                                                          ‫قو ًّيا لكنني كنت يق ًظا‪ .‬كنت أحمي كتلة أجساد‬
    ‫شعوري بأنني أحميها‪ ،‬هي التي لم تكن تخاف‬           ‫لجأت إلى هذه البقعة انتظا ًرا لبزوغ الشمس‪ .‬حدود‬
   ‫من أشباح الموت التي تحلق فوق رؤوسنا‪ .‬طالت‬           ‫الأمل كانت هي حدود الميدان‪ .‬كنت أمر في المنطقة‬
 ‫القبلة بما يكفي كي تمتزج بطعم الآه والدموع‪ ،‬كي‬           ‫المخصصة لي أراقب النائمين‪ ،‬أُطمئن من جافاه‬
  ‫أشعر برجولتي تتدفق كالنهر بين يديها‪« .‬نهير»‪،‬‬
   ‫«إيزيسي» السمراء فردت جناحيها وجذبتني إلى‬
   ‫عالمها ولم أكن أدري أنني أغادر حياتي القديمة‪.‬‬
  ‫عندما كنت طالبًا جامعيًّا‪ ،‬كنت أعيش حياة هادئة‬

    ‫منظمة تتعامد فيها ساعات المذاكرة الطويلة مع‬
‫سويعات القراءة والجري في النادي وبعض سهرات‬

    ‫الموسيقى العربية‪ .‬كنت أحب السينما الأوروبية‬
‫والآسيوية وأسعى لعزل نفسي عن هراء هوليوود‪.‬‬
   56   57   58   59   60   61   62   63   64   65   66