Page 62 - merit 50
P. 62

‫العـدد ‪50‬‬   ‫‪60‬‬

                                                   ‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

  ‫خارج حدود الميدان كانت كافية لمعاودة الشعور‬        ‫كنت عينة نادرة لكائن في طريقه للانقراض‪ .‬كائن‬
 ‫بالاختناق والألم‪ .‬كنت أتحرك بالتاكسي لأن البلد‬         ‫من الممكن أن يقتبس قو ًل لـ»سوفوكليس» أو‬
                                                       ‫«الرافعي» أو «نجيب محفوظ»‪ ،‬ويحب «الرواية‬
   ‫كان يرتع فيه الإجرام‪ .‬أخاف على «نهير» لأنها‬          ‫الجديدة» رغم انتهاء عزها‪ .‬أحب الكلاسيكيات‬
‫كانت كثيرة الحركة والتنقل‪ .‬لم تكن تخبرني بأنها‬
‫ستغادر الميدان إلا بعد أن تكون قد غادرته بالفعل‪.‬‬   ‫الحديثة وموسيقى «باخ» و»موتسارت» وبريلودات‬
 ‫كنت أشعر بالحيرة والعجز وأؤكد لنفسي أنها لا‬           ‫«شوبان» وأطرب للطقاطيق القديمة ولكل تراث‬

   ‫تحتاج إلى رجل مثلي لا تثق في مشاركته الرأي‪،‬‬       ‫«أم كلثوم» قبل الحقبة الستينية‪ .‬لم يكن غريبًا أن‬
    ‫لكنني كنت أعاود التمسح على عتباتها كمؤمن‬       ‫تقتصر صداقاتي على كائنات لم يصبها عطب القرن‬
                                                   ‫الواحد والعشرين كثي ًرا ولم يزيدوا عن أصابع اليد‬
 ‫مخلص‪ .‬كانت تلتقي رفاقها من الثوار‪ .‬كان اللقب‬
‫طاز ًجا متجد ًدا بعد رقاد سنين في حضن تاريخ لم‬                                            ‫الواحدة‪.‬‬
                                                         ‫لم أكن طمو ًحا ولا طما ًعا‪ .‬الركون إلى ميراث‬
  ‫يتفق أحد على روايته‪ .‬تحب التواجد وسط زمرة‬            ‫أسرة متغلغلة في البرجوازية المصرية كان أحد‬
  ‫الرفاق‪ :‬يساريون نشأوا في أحضان خيبة الأمل‬         ‫ميزات حياتي‪ .‬بعد التخرج تفرغت لإدارة صيدلية‬
                                                     ‫صغيرة في حي تائه على خريطة العاصمة المترعة‬
    ‫التي أورثتها الجلاسنوست والبيروسترويكا‪،‬‬         ‫بالأركان الصغيرة المخفية‪ .‬كانت تضمني حيطانها‬
    ‫أناركيون يؤمنون بقدرة الفرد على قهر الدولة‬       ‫وعلى مكتبي وضعت اسطوانات موسيقى أجددها‬
 ‫وزعزعة أركانها وصو ًل إلى الحرية المطلقة‪ ،‬طلبة‬       ‫أسبوعيًّا‪ ،‬وفي كل مرة تثير شهية السخرية لدى‬
                                                   ‫مساعدي «مسعود»‪ .‬كانت سخرية رائقة‪ ،‬بل وكان‬
         ‫جامعة أمريكية خرجوا من تربة ُم َخ َّصبة‬     ‫يترجم مزاجي وفق نوعية الموسيقى التي أحملها‬
       ‫بثقافة العالم الجديد‪ ،‬اشتراكيون يجلسون‬       ‫إلى الصيدلية‪« .‬باخ» جدية‪« ،‬منيرة المهدية» روقان‪،‬‬
         ‫على الحياد ما بين كفاح الطبقات الكادحة‬       ‫«أم كلثوم» عشق‪« ،‬كاميلاري» غرام‪ ،‬أما «محمد‬
                                                       ‫منير» و»عبد الحليم» فمزاج وطني لا ِشية فيه‪.‬‬
          ‫ومقصلة رأس المال‪ ،‬دعاة تحرر من كل‬                ‫كنت مصر ًّيا حتى النخاع‪ ،‬رغم أنني خريج‬
       ‫القيم المتوارثة المتحفية‪ ،‬طلبة جامعة دخلوا‬     ‫مدارس فرنسية وأحمل وصمتها في نظر العامة‬
                                                        ‫التي تشكك في رجولة خريجيها‪ .‬الجيل القديم‬
          ‫السياسة من باب اللايكات والشير على‬           ‫من عائلتي كان يتحدث المصرية الفرنكوفونية‪.‬‬
            ‫الفيسبوك‪ .‬لم أكن واح ًدا منهم‪ ،‬لكنني‬   ‫والجيل الجديد هاجر معظمه إلى بلاد الفرنكوفونية‬
            ‫حضرت بعض اجتماعاتهم بدعوة من‬           ‫والأنجلوساكسونية‪ .‬دفتر تلفوني يحمل كود معظم‬
   ‫«نهير»‪« .‬نهير» نفسها كانت تنتمي إلى أفكارها‬      ‫دول الغرب‪ .‬كنت مثق ًل بحنين لأحباب كثر‪ .‬وعليه‬
    ‫فقط‪ ،‬تنتصر لحقوق الإنسان وتتعصب للمرأة‬         ‫وجدت لي وطنًا في قلب الميدان وحضنًا لدى «نهير»‬
        ‫والطفل وتكره كل من يرتدي ز ًّيا رسميًّا‪.‬‬   ‫التي بدأت أنطق اسمها في خيالي بعدما كنت أسميها‬
  ‫«عشت في أوروبا وأمريكا فترات طويلة مكنتش‬
‫بشوف عسكري إلا لما يحصل حادث‪ .‬هنا العساكر‬                                                ‫«إيزيس»‪.‬‬
                                                          ‫كان الميدان وطنًا وسكنًا وملا ًذا‪ .‬أتجول بين‬
                            ‫أكتر من المواطنين»‪.‬‬     ‫ساكنيه كأنني أتجول داخل طرقات مدينة صغيرة‬
‫كانت تميل إلى الأناركيين وتعتقد أن العالم سيكون‬    ‫انعزلت عن العالم فصارت فردو ًسا دون أن تدري‪.‬‬
                                                   ‫لأنها انعزلت عن ال َج ْور والظلم والدمار‪ .‬صحيح أن‬
    ‫أفضل من دون حكومات‪ .‬لأن الحكومة امتداد‬            ‫العالم الخارجي كان يرسل علينا ِح َم َمه من وقت‬
‫للسلطة الأبوية التي ترفضها من أساسها‪ .‬تتحدث‬            ‫لآخر‪ .‬لكن الحدود الفاصلة بين ميداننا وعالمهم‬
                                                        ‫كانت واضحة المعالم‪ ،‬لدرجة أن بضع خطوات‬
      ‫قلي ًل عن أسرتها‪ .‬أمها تعمل في هيئة المعونة‬
   ‫الأمريكية وأبوها أستاذ جامعة في أمريكا‪ .‬وهي‬

     ‫اختارت البقاء في القاهرة لتشارك في التغيير‪.‬‬
  ‫أحببت فيها حماسها لمستقبل مصر الذي ُيصاغ‬
‫بأيدي نخبتها‪ .‬لم أشعر بالانتماء لتلك النخبة‪ ،‬فقط‬
 ‫للميدان ولحالة اللُحمة البشرية التي تربطني بكل‬

                   ‫من فيه على اختلاف طبيعتهم‪.‬‬
   57   58   59   60   61   62   63   64   65   66   67