Page 75 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 75

‫‪73‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

            ‫بال ُكبراء يرددون خلف حضرة العمدة‪:‬‬             ‫هذا على حماره‪ ،‬وهذا خلف زجاج السيارة الذي‬
               ‫‪« -‬على بركة الله‪ ،‬اتفقنا‪ ،‬الفااااتحة»‪.‬‬                  ‫تغبشه مياه المطر‪ ،‬يقول هذا لذاك‪:‬‬
                                                                                      ‫‪« -‬صباح الخير»‪.‬‬
‫باب منزل حسن‪ ،‬وباب منزل نعيم‪ ،‬يفتحان في زنقة‬
     ‫ضاقت بزغاريد النسوة‪ ،‬والمباركات من رءوس‬               ‫والقصد هو «صباح الطين»‪ ،‬ويرد ذاك على هذا‪:‬‬
    ‫كبيرة‪ ،‬وكروش ضخمة‪ ،‬بعضها لمن شهد إقرار‬                                            ‫‪« -‬صباح النور»‪.‬‬

  ‫الاتفاق‪ ،‬والجميع أتى ليشهد التنفيذ العملي‪ ،‬وأناب‬        ‫والمقصود‪« :‬إني لأحقد عليك وأحسدك من أعماق‬
         ‫العمدة من حضر عنه‪ ،‬ونقل إليه ما جرى‪.‬‬                                                   ‫قلبي»‪.‬‬
                                      ‫قال نعيم‪:‬‬
                 ‫‪ُ « -‬خذ يا حسن هذا هو الحمار»‪.‬‬        ‫تتصادم كرات الأعين فينطلق الشرر‪ ،‬وترعد السماء‪،‬‬
                                    ‫وقال حسن‪:‬‬                 ‫تواصل سكب الماء على البلد‪ ،‬فتكثر برك المياه‬
                   ‫‪« -‬وهذه هي السيارة يا نعيم»‪.‬‬
                                                        ‫ومستنقعات الوحل بالطرقات والمسارب‪ ،‬والأجران‪.‬‬
‫بدا الجميع راضين مبسوطين‪ ،‬وبدءوا في الانصراف‬                                                  ‫ه ُّم الليل‬
  ‫تاركين نعيم عند السيارة‪ ،‬وحسن مع الحمار أبي‬
                                         ‫حلس‪.‬‬                   ‫الجدار بين حسن ونعيم طيني رقيق‪ ،‬ينقل‬
                                                           ‫الأصوات‪ ،‬وربما الهمسات في سكون الليل‪ ،‬فإذا‬
‫دخل نعيم السيارة كما كان يفعل حسن‪ ،‬جلس خلف‬               ‫نامت الجفون‪ ،‬قامت قيامة الأحقاد‪ ،‬يتساقط الطين‬
 ‫المقود كحسن‪ ،‬وجذب الباب‪« :‬طرخ» بشدة ليسمعه‬              ‫من السماء في لطع كبيرة‪ ،‬أصوات السيارة مطارق‬
      ‫الجميع قبل أن يبتعدوا؛ انتفض نائمون وغير‬         ‫على رأس نعيم‪ ،‬ينهق أبو حلس ويدبدب مع أم حلس‬
    ‫نائمين‪ ،‬صرخت عيال‪ ،‬بكت رضع‪ ،‬وقعت عمائم‬               ‫في المداعبات الزوجية‪ ،‬فتنفلق رأس حسن‪ ،‬ينتفض‬
 ‫وبلاليص من فوق رءوس‪ ،‬ارتجت جدران‪ ،‬واهتزت‬               ‫أحد الحاق َدين في سريره‪ ،‬يسمع من الآخر خطواته‪،‬‬
   ‫أشجار‪ ،‬هاجت عصافير‪ ،‬ونفرت أبقار وجاموس‬               ‫سعاله‪ ،‬رنين ملاعقه‪ ،‬صراخ أطفاله‪ ،‬وأزيز الأبواب‬
  ‫وحمير‪ ،‬ا َّدعت عجوز أنهما جملا الشتاء والصيف‪،‬‬
            ‫مع أن السماء بلا سحب‪ ،‬حوقل شيخ‪:‬‬                  ‫في بيته‪ ،‬لكل حركة صوت‪ ،‬وكل صوت أسنان‬
                               ‫‪« -‬لطفك يا رب»‪.‬‬         ‫عضاضة‪ ،‬ومصارين متقلصة‪ ،‬وصرخات ناطقة بلا‬
        ‫وثمة من ظنوا أنها الساعة‪ ،‬ثم قالوا زلزال‪.‬‬
 ‫حسن امتطى الحمار أبا حلس‪ ،‬كما كان يفعل نعيم‪،‬‬            ‫صوت‪« :‬إلام الصبر على جار السوء‪ ،‬لا هو يرحل‬
  ‫هز رجله وزعق‪« :‬شي» و»حا» مثل نعيم‪ ،‬تزحلقت‬                             ‫ولا المصيبة التي تكشحه تجيء»‪.‬‬
   ‫البردعة من فوق الحمار‪ ،‬وقعت بحسن‪َ ،‬س َرت في‬                                              ‫يوم المبادلة‬
   ‫الأرض زلزلة أخرى‪ ،‬وصرخ حسن‪« :‬آااه»؛ فعاد‬
      ‫الجميع وما كادوا ينصرفون‪ ،‬اختلطت الأذرع‬            ‫العمدة يحب المناسبات والتجمعات مع كبار رجال‬
    ‫والسيقان والرءوس والحناجر‪ ،‬حملوه إلى أقرب‬            ‫القرية‪ ،‬تتأكد زعامته‪ ،‬وتتجلى أمام الجميع أهميته‪،‬‬
                             ‫كنبة في مندرة بيته‪.‬‬        ‫يرتدي أفضل جلباب وعباءة وعمامة‪ ،‬يتزعم الكبار‬
  ‫هز نعيم رجله داخل السيارة‪ ،‬كما كان يفعل وهو‬
     ‫يمتطي الحمار‪ ،‬زعق بالشي والحا‪ ،‬سب ولعن‪،‬‬                 ‫في جلسات التحكيم‪ ،‬ولا يبخل عليهم بالولائم‬
   ‫واستطاع النظر كحسن عبر زجاج نافذة السيارة‬                ‫والمشاريب قبل الجلسة وبعدها‪ ،‬وقد يعد مائدة‬
     ‫المغلق‪ ،‬رأى الكرباج كثعبان كسول على مقطف‬            ‫مستديرة كبيرة‪ ،‬يراعى التوازن وإظهار الحياد في‬
     ‫تبن بمدخل الزريبة‪ ،‬ورأى أن يلهب به السيارة‬           ‫أماكن الجالسين حول المائدة‪ ،‬كيوم مبادلة حسن‬
                                                        ‫ونعيم السيارة بالحمار أبي حلس‪ ،‬فقد جعل هذا في‬
‫الحرنانة‪ ،‬لم يستطع فتح الباب‪َ ،‬د َف َعه‪ ،‬دق عليه‪ ،‬سب‬   ‫طرف‪ ،‬وذاك في طرف‪ ،‬وكان هو في منتصف المسافة‬
  ‫ولعن مجد ًدا‪ ،‬الزجاج حجز صوته‪ ،‬وغلبت عليه في‬
 ‫الأسماع آهات حسن‪ ،‬تزاحم الناس حول حسن في‬                                                       ‫بينهما‪.‬‬
                                                                    ‫قال العمدة ناظ ًرا لحسن ونعيم بحزم‪:‬‬
                                                            ‫‪« -‬لا رجوع في اتفاق ما دمت أنا الضامن له»‪.‬‬
                                                          ‫ُش َّدت عباءات على الأكتاف‪ ،‬دارت أكواب‪ ،‬ودارت‬
                                                         ‫عصي خيزران وعاج في الأيدي‪ُ ،‬س ِمعت الأصوات‬
                                                              ‫الخشنة الجادة في مناقشات متعددة‪ ،‬وانتهت‬
   70   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80