Page 79 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 79
77 إبداع ومبدعون
قصــة
عبد الحميد البرنس
(السودان)
رحلة إلى نيالا
الناس على حين غرة لا بالفرار منه كعادة أيامنا، لم يكن حم ّو في طفولته مخي ًفا إلى هذه الدرجة.
بل بالنفور والتعامل معه تحدي ًدا كمحض مخلوق وكما يقول حسن ذيل القرد الماحق المغمور بخواطر
حيواني ض ّل طريقه إلى عالم الإنسان مزو ًدا بكل
الوحدة الحزينة أثناء بحثه عن مخه المنتزع:
صفاتهم عدا الرأس «الزائد عن الح ّد». “هذا العالم (للأسف) لا تصنعه الوقائع .بل
المتدينون تعاملوا مع لغز الموقف كما درجوا على الروايات عن تلك الوقائع” .هناك كثير من الإضافة.
هناك كثير من الحذف .وهناك الكثير والكثير لا
التعامل مع ِحكم الخالق الأخرى دون تساؤل:
“لله صاحب الأمر في خلقه شؤون”. ريب من الاختلاق و”تحوير الحقائق”!
لقد كان ح ّمو (ربما بإحدى تلك الصور شديدة
أكثر ما ظ ّل يثير في نفوسهم خلي َط تلك المشاعر الندرة) طف ًل عاد ًّيا في حاجة دائمة إلى العطف
المتك ّون من الغيظ والحيرة والغل والتردد نو ًعا ما والحنان ،اللهم إلا من باب أن النّاس «في عصرنا
في أذيته وحتى مشاعر الاشمئزاز ،عندما يزورونه الحديث هذا المميز بوجود حديدة تدعى الراديو
أوقات السلم ،ويجدونه مستلقيًا على السرير برأس يمكنها أن تتحدث إليك وترهف أذنها في الوقت
نفسه لما تفكر أنت فيه أو تقول “لم يشهدوا من
مستغرق في النوم وآخر يتفكر في أحوال العالم قبل مخلو ًقا بشر ًّيا يمكنه تغيير لون عينيه كما
بعينين حزينتين .ما أدهشهم ح ًّقا أنه وقع في غرام تغير الحرباء لون جلدها بلون الأسطح التي تمر
عليها ،وما إلى ذلك من الحيل غير المعتادة تما ًما في
فتاتين يعدهما الناس عدوتين لدودتين. عالم البشر ،مثل تغيير موقع العينيين نفسه ،مع أن
“كما الماء وبقع الزيت لا يتحدان”. أمثال هؤلاء الناس (من العصر الحديث) أنفسهم
علموا من قبل بوجود طفل ولد لحكمة لا يعلمها
كان من المألوف تما ًما ،في تلك الأيام ،رؤية هذين غير الخالق سبحانه وتعالى برأسين .وربما حتى
الرأسين ،وهما يتعاركان على قمة ذلك الجسد هذا «الطفل برأسين» لم يثر ذعرهم بذلك القدر
الكافي ،لأنهم ببساطة لم يروه وهو يسعى بينهم
المنهك على خلفية ح ّمى «هذا وذاك الغرام» بوطيس هكذا «عيا ًنا بيا ًنا” ،إذ تم نقل أحواله عبر الحكايات
حربهما الأهلية المستعرة تلك. المتواترة المنحدرة (في العادة على مجرى الليالي
المقمرة) من حياة أسلافهم “الموغلة في القدم”.
باختصار ،ضجر الناس من وجود مخلوق برأسين
ما ينفك يثير ضيقهم من حين إلى آخر. إحدى تلك الروايات تقول إن أحد رأسيه كان
لولا أ ّنهم فكروا في بعثه كرسول. مخص ًصا للكلام مع الناس وعزف الفلوت أحيا ًنا،
لقد أرادوا بالفعل الفتك به في ليلة لعبت فيها الخمر بينما الرأس الآخر ظل مخص ًصا فحسب للأكل
برؤوسهم ،لما ارتفع من وسط الصخب المنفلت نداء وأشياء أخرى «ذات طابع عاطف ّي» مثل بعث
طفل كما لو أن «الآلهة تتحدث من خلال حنجرته»،
القبلات خلسة للفتيات في مجتمع محافظ .يقال
قائ ًل“ :أيها السادة :ماذا لو بعثنا به إلى القبائل كذلك إن الرأس الأول كان يسعفه بالاستماع إلى
وحركات التمرد في الأطراف البعيدة النائية”؟ ت ّم «ذات نفسه» في لحظات الوحدة القاتلة ،حين يبدأ
حا ًل رفع «أبو رأسين» على الأعناق وترقيته إلى
«بطل» .لقد كان يسهل عودة أولئك المارقين إلى
التسليم والطاعة برسالة حيّة مفادها أنه لدينا
الكثير من صنف «أبو رأسين هذا».
لو أن حمو كان بعينيه الشيطانيتين من أحياء ذلك