Page 82 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 82
العـدد 32 80
أغسطس ٢٠٢1
شامة الجعيلة أن غادرت حزنها ذاك على “الق ّس كان الق ّس يجلس قبالتنا ويتحدث العربية كما لو
اليونان ّي الطيّب كما بسمة” على بعد نصف نهار أنه «أحدنا» ،بينما يضم إلى صدره بقبضته المكتنزة
من الوصول إلى نيالا ،قائلة“ :يا سماح ،لن يخيفني المشعرة صليبًا مذهبًا ،ويبتسم أحيا ًنا كمن يصغي
شيء آخر في هذا العالم من بعد رؤيتي لعيني ابن إلى أناس لا ينفك يصنعهم الضجيج الرتيب لعجلات
علوية التركية الشيطانيتين” .كانت تعني الطفل القطار .فجأة ،سأل الق ّس اليونان أ ّمي قائ ًل:
“أليست هي في الأخير رحلة خطرة ،يا أختاه”؟
حمو. ثم ابتسم بشيء أدرك الآن أ ّنه الطيبة.
ثم هزت رأسها وعيناها شاردتان. كانت أمي منذ أن وقعت عيناها في مرحاض علوية
لحظة أن ساد الصمت المبطن براحة الوصول من التركية لأول مرة على سحالي بعيون حزينة دامعة،
بعد مسيرة خطرة في أعقاب ذلك النشيج الطويل ومنذ أن أخذ طفل يلتهم قبالة أبي المرتعد فراشة
المبحوح لصافرة القطار المتهادي أخي ًرا مثل نهر صفراء بعينه اليمنى ،إن لم تخ ِن الذاكرة ،قد
عجوز صوب مصبه ،أخذت أمي تتمتم قائلة: تأكد لها أنها سترى في المستقبل الكثير من رسل
«أرجو ألا يكون السائقان في المقطورة الأمامية الشيطان.
قد تع ّرضا لمخالب الثعالب الطائرة وأن صافرة لم تجبه.
الوصول تلك ليست من صنع خيالي هذا فيتوقف فقط ،ضمتني إليها« .شامة المسكينة» ،فكرت« :كيف
القطار اللعين أخي ًرا .ثم لا أعتقد أن في نيالا هذه يا يمكن لرجل أبيض سوي بالفعل أن يتحدث بلغة
سماح بنتي ما قد يماثل ق ُّط مثل تلك العيون القميئة القرآن الكريم»؟ ثم واصلت مخاطبة نفسها :لا
في شيء” .قالت أ ّمي ذلك بنبرة خفيضة تبدو لي نهاية هناك لعجائب هذا الزمن.
الآن مثل أحلام لكسيح بالعدو مغمورة بالتشكك أخذت تضمني إليها أكثر فأكثر ،بينما تهمس في آن
والأسى ،من قبل أن تغرق مجد ًدا في مثل ذلك النوع بيقي ِن ذلك المؤمن التق ّي الورع ،قائلة:
“بسم الله الرحمن الرحيم”.
من الصمت. لم يختف الرجل بهيئة ق ّس أبيض كما لو أ ّنه
هكذا ،حين توقف القطار أخي ًرا ،في محطة نيالا ،كنا الشيطان حسب اعتقاداتها تلك .بل أخذت ابتسامة
الرجل لرعبها تزداد كلما همهمت ثانية بالبسملة.
مغمورتين تما ًما مثل عاملتين في طاحونة بدائية لما لم يعد بالوسع هناك من مفر ،سألته أ ّمي ،وقد
بالغبار المطحون الناعم المتصاعد من أسفل القطار اطمأن قلبها نو ًعا ما ،قائلة« :وأنت ألا تعلم كذلك
أنها رحلة محفوفة بمخاطر الثعالب الطائرة ،أ ّيها
طيلة أيام الرحلة ،وكان جسد الق ّس اليوناني كبسمة»، الطيّب اليونان ّي «الق ّس ابتسم الرجل»؟
قبلها لا يزال على المقعد المقابل يتأرجح ،مثل شيء قائ ًل:
“الله يحمي مبعوثيه ،يا أختاه”.
هش قابل للسقوط والتدحرج في أي لحظة ،مع رمقت أمي السماء الجرداء وراء نافذة القطار
الاهتزازات الأخيرة للقطار ،برأس منزوع تما ًما من المشرعة ،بنظرة حزينة ،وغفلت راجعة ،تخاطب
الق ّس الغريب «إن الله يمهل ولا يهمل» ،بينما
جذوره ،ويد بيضاء شاحبة لا تزال قابضة بقوة تحاول مسح دموعها ،وتسأل سؤال المصاب
على ذلك الصليب المذهب .وبينما تشتد قبضة أمي المتشكك عن خلاص ،قائلة« :أليس كذلك»؟ ابتسم
الق ّس( ..سيرسخ في ذهنها على نحو ما أن أمثال
على معصم يدي ،تما ًما كمن يضغط على تعويذة هذا الق ّس سيواصلون الابتسام هكذا ببلاهة حتى
البقاء الناقص ضد احتماليّة الفناء الكامل ،رأيتها بين فكين مشرعين لتمساح من قبل أن ُيطبق
وهي تبتسم لي ،بينما تقول« :لا تجزعي أب ًدا مما قد عليهم) ..وبدأ الليل يرخي سدوله في الخارج .ولا
رأت عيناك طوال هذه الرحلة» .وكما لو أن مرأى ب ّد أن الهضاب الرمليّة في الخارج ستلفظ الثعالب
المختبئة من هجير الشمس «قريبًا” .ما لبثت أمي
الموت غدا شيئًا عاد ًّيا في الحياة ،تابعت قائلة:
“ها قد وصلنا الآن يا سماح إلى نيالا”.
---------------
فصل من رواية لم تنشر بعنوان «السادة
الرئيس القرد”.