Page 81 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 81

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

‫بنهاية الأشياء وتحللها‪ ،‬كما لو أن البيوت الصغيرة‬                    ‫أكثر أيام عمرها «هنا في كندا هناءة»‪.‬‬
  ‫في هدوئها ذاك معاب َر أنيقة إلى الموت‪« .‬كانت أ ّمي‬      ‫“ظ ّل الأمر دو ًما أشبه بنقش على حجر»‪ .‬وقالت‬
 ‫تبعثني وقتها ككتيبة استطلاع ميداني لمراقبة أحد‬         ‫إن من الصعوبة بمكان عليها «الآن» وصف تأثير‬
     ‫أطفال الجيران مستغلة قدرتي على الرؤية عن‬            ‫ما كان مجرد «عينين لطفل»‪ ،‬إلا أنه على كل حال‬
  ‫بعد بوضوح تام‪ .‬كان طف ًل عاد ًّيا بعينين قاتلتين‬     ‫«تأثير عميق استغرقني ما بدا حياة كاملة قضيتها‬
  ‫«في نظر أمي»‪ .‬كانت أمي عادة ما تضع أذنها من‬              ‫في جمهورية عادة ما كانت الأعيرة النارية فيها‬
     ‫الداخل على باب الشارع منتظرة علامة تحذير‬
                                                             ‫تضل طريقها إلى قلوب الراشدين الآمنة في‬
‫صوتي مني تخبرها بالحالة التي عليها عينا طفل ما‬            ‫منازلهم عدا أن الأسلحة نفسها لا تني تمزح‬
 ‫تنفك تتقلب في الدقيقة الواحدة بألوان الطيف كلها‪.‬‬       ‫مع صغار هؤلاء لا أكثر»‪ ،‬وقالت‪« :‬كانت عيناه‬
                                                       ‫تقومان باختصار بعمل جيش‪ ،‬إلى درجة أن أ ّمي‬
   ‫كنت «على ما أذكر» في نحو الخامسة «تحرسني‬              ‫شامة الجعيلة أنفقت شهورها الأخيرة في قسم‬
‫الملائكة»‪ ،‬كما كانت شامة أ ّمي تردد‪ ،‬وكنت غالبًا ما‬    ‫الأمراض العقليّة بمستشفى نيالا «التعليمي» وهي‬
                                                          ‫تملي عريضة إلى وزارة التربية والتعليم تفرض‬
 ‫ألعب بأعصابها‪ ،‬في مرات عديدة‪ ،‬قائلة كذ ًبا «أقبل‬         ‫على التلاميذ في طابور الصباح الترنم بتعويذات‬
 ‫يا أ ّمي حام ًل عينيه في يده اليسرى»‪ .‬أو “اليمنى»‪.‬‬    ‫الحماية ضد شر العيون وآثامها عو ًضا عن الشدو‬
 ‫وكتبت سماح قائلة‪« :‬كان ذلك يعني بالنسبة لأ ّمي‬          ‫بالنشيد القومي للوطن»‪ .‬كانت شامة في مسعاها‬
                                                       ‫من الجدية إلى الدرجة التي دفعت برجال من جهاز‬
    ‫ما يع ّن لي أحيا ًنا تسميته بالموت رعبًا”‪ .‬في يوم‬     ‫أمن الدولة إلى حبسها داخل إحدى غرف ملحقة‬
   ‫يزيد وضو ًحا كلما أوغلت عنه مبتعدة السنوات‪،‬‬            ‫بمخازن تخ ّص المستشفى ت ّم إنشاؤها لسبب ما‬
   ‫تركت أ ّمي ما تطبخ على النار‪ ،‬أخذت شنطة يدها‬        ‫أسفل الأرض‪ .‬لقد ُو ِض َعت هناك دون رحمة على‬
 ‫وقادتني بيد ولم تقل لي أب ًدا إلى أين نحن ذاهبتان‪،‬‬        ‫نحو مباشر جنبًا إلى جنب ذلك «الوجود‬

       ‫والبيت الذي تركناه خلفنا كان يكتظ بوجود‬              ‫الشاخص لخمسين زو ًجا من العيون‬
 ‫السحالي التي ألف ُت وجودها بأكثر من تعايش أ ّمي‬        ‫البشرية المقتلعة حديثًا دون تخدير»‪ .‬ما‬
  ‫معها‪ .‬ذلك التعايش المحكوم منذ البداية بتصورها‬        ‫أفقد شامة لا «عقلها»‪ ،‬بل ما تبقى منه‪.‬‬
                                                         ‫كذلك أرادت «السلطة» التخلّص هكذا‬
             ‫ذاك عن وجود يد ما للشيطان «هنا»‪.‬‬           ‫بالجنون النهائ ّي من «سيّدة» لا تنفك‬
  ‫كانت رحلة شاقة بالقطار‪ ،‬كنا نسمع خلالها لي ًل‬        ‫تشيع تخوفها في عالم لا يني الراديو‬
‫بصرخات استغاثة يائسة ورعب‪ ،‬وكنت ترى نها ًرا‬
‫بقايا رؤوس مبعثرة على جانبي السكة‪ .‬كانت هناك‬                     ‫يؤكد على «أمنه الراسخ»‪.‬‬
 ‫في الخلاء الوسيع المترامي اللانهائي أجساد تسير‬          ‫بدأت سماح حسن الماحي في كتابة‬
 ‫متخبطة في مشيها‪ ،‬كما لو أنها تبحث عن رؤوسها‬             ‫مذكراتها‪ ،‬في منتصف شهر يوليو‬

                                       ‫المنتزعة‪.‬‬           ‫من ذلك العام‪ ،‬على شرفة منزل‬
 ‫وكان ثمة ق ّس لونه أبيض كما لون الحليب الطازج‬            ‫خشبي أبيض اللون صغير يطل‬
                                                         ‫على مشهد بحيرة صغيرة تتوسط‬
   ‫تدفق للت ّو من ضرع‪ .‬وقد جاء (كما زعم) قاد ًما‬        ‫مجم ًعا سكنيًّا للمتقاعدين في مدينة‬
 ‫من اليونان «لإنقاذ أرواح رهبان في كنيسة نواحي‬            ‫وينبيك‪ ،‬عاصمة محافظة منيتوبا‬
  ‫جبال النوبة وردت رسالة منذ نحو ثلاث سنوات‬
                                                             ‫بكندا‪ ،‬حيث درجت سماح على‬
   ‫مفادها أ ّنهم شرعوا تحت تأثير جرعة زائدة من‬          ‫قضاء سنوات شيخوختها منذ فترة‪،‬‬
  ‫التطهر في صنع سلالم في أخيلتهم كي يروا كيف‬             ‫مغالبة وطأة ذلك الشعور بدنو الموت‬

    ‫تبدو رذائل الأرض المنتشرة من أعلى‪ .‬استغرق‬               ‫والحنين‪ .‬كانت سماح تقاوم بالكتابة‬
     ‫نقاش الأخبار في أثيناء نحو العام‪ .‬وكان علينا‬          ‫لا أرق الذكريات‪ ،‬بل مناخ المجمع السكني‬
‫انتظار رد الفاتيكان في إيطاليا عا ًما آخر‪ .‬من قبل أن‬    ‫لأولئك المتقاعدين‪ ،‬الذي يوحي كل شيء فيه‬
 ‫يأتينا الإذن بتفقد أحوال أولئك الرهبان لمعرفة إلى‬
  ‫أي مدى ارتفعوا عن الأرض «هذه اللحظة»‪ .‬وكان‬
‫الإعداد لرحلتي هذه قد استغرق عا ًما آخر ت ّم خلاله‬

                        ‫«تسوية الأمور العمليّة»‪.‬‬
   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86