Page 8 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 8

‫العـدد ‪34‬‬                                       ‫‪6‬‬

                                               ‫أكتوبر ‪٢٠٢1‬‬

 ‫سيفسر «انحراف» زملاء جمال عبد الناصر‬          ‫وسجنها‪ ،‬بل وقتلها كما حدث مع عمر مكرم‬
‫عن الطريق الذي اختطه‪ ،‬والأهم‪ :‬لماذا لم يقف‬          ‫وفي مذبحة القلعة قدي ًما‪ ،‬وكما حدث في‬

  ‫الشعب المصري ليحمي تلك «المنجزات» إن‬         ‫سجون الناصرية التي بدأت عام ‪ 1952‬ولم‬
  ‫كانت تصب في مصلحته بالأساس‪ .‬الإجابة‬                                  ‫تنته حتى اللحظة‪.‬‬

     ‫ببساطة لأنه لم يشارك في صنعها‪ ،‬ولم‬               ‫هذا التأريخ المبسط ‪-‬المخل‪ -‬لدورات‬
       ‫يحس أنها تصب في مصلحته بالفعل!‬            ‫صعود فكرة «التحديث» وهبوطها‪ ،‬خاصة‬
                                                  ‫في دورتيها البارزتين‪ ،‬يجيب عن السؤال‬
    ‫لو قار َّنا هذا التحديث الفوقي الذي أحدثه‬
    ‫الطاغية (!) بالتحديث الغربي سنجد بو ًنا‬          ‫الصعب‪ :‬لماذا يفشل التنوير في مصر؟‬
   ‫شاس ًعا بين التجربتين‪ ،‬فالتحديث الغربي‬      ‫فالإجابة ببساطة‪ ،‬كما يشي بها الاستعراض‬
  ‫جاء نتيجة صراع مجتمعي طويل وتطاحن‬
    ‫أفكار َخلُ َص إلى ضرورة احترام الحقوق‬        ‫السابق‪ ،‬أن التحديث‪ -‬التنوير؛ جاء بأوامر‬
    ‫والحريات‪ ،‬والتداول السلمي للسلطة عبر‬          ‫عليا من الحاكم وبإرادته‪ ،‬ولم يأ ِت نتيجة‬
  ‫انتخابات ش َّفافة‪ ،‬وتقييد مدة الرئاسة بعدد‬       ‫حراك مجتمعي سليم‪ .‬فالحاكم الفرد في‬
     ‫محدود من السنوات لأن السلطة المطلقة‬        ‫كل الحالات يكون قد تخلَّص من معارضي‬
                                                  ‫توجهاته بأشكال عنفية مروعة‪ ،‬وتحالف‬
       ‫مفسدة مطلقة‪ ،‬بالإضافة إلى الشفافية‬         ‫‪-‬لفترة أو طوال الوقت‪ -‬مع من يسمون‬
      ‫ومحاربة الفساد‪ ..‬إلخ‪ ،‬وجاء الدستور‬           ‫أنفسهم «رجال الدين»‪ ،‬في عملية تقاسم‬
 ‫الأمريكي بعد حوالي قرن من الحرب الأهلية‬          ‫للسلطة بين الفريقين‪ ،‬بنسب يتح َّكم فيها‬
   ‫ليقر ضرورة التشارك في الوطن‪ ،‬وتسييد‬
   ‫القانون الذي يتم تطبيقه على الجميع دون‬           ‫الواقع على الأرض في كل مرحلة حسب‬
      ‫النظر إلى الأصول العرقية والانتماءات‬       ‫ظروفها ومعطياتها‪ ،‬وهو الأمر الذي تك َّرر‬
 ‫المذهبية‪ ،‬ووقوف السلطة على مسافة واحدة‬        ‫‪-‬بصورة أوضح‪ -‬عام ‪ ،2012 -2011‬حين‬
 ‫من جميع مواطنيها‪ ..‬إلخ‪ .‬بالطبع أنا لا أقول‬
   ‫إن هذه أنظمة ملائكية لا يأتيها الباطل من‬         ‫رعى المجلس العسكري (الحاكم وقتها)‬
 ‫بين يديها ولا من خلفها‪ ،‬لكني أرصد الغالب‬        ‫عملية استيلاء جماعة الإخوان على السلطة‬
 ‫على الممارسة العملية هناك وهنا‪ ،‬مع الإقرار‬    ‫في انتخابات غير حاسمة‪ ،‬أجريت ‪-‬أسا ًسا‪-‬‬
                                               ‫بين ممثلين عن التيارين المتنافسين منذ عام‬
            ‫بوجود استثناءات تؤ ِّكد القاعدة‪.‬‬    ‫‪ ،1800‬وإذا فتحنا القوسين يمكن أن نقول‬
 ‫الحل ‪-‬إ ًذا‪ -‬هو انتهاء هذا الزواج الكاثوليكي‬     ‫منذ عصر الأسرات الفرعونية حين حدث‬
‫بين قوة السلطة ومن يسمون أنفسهم “رجال‬            ‫التزاوج بين القائد العسكري‪ -‬الإله‪ ،‬وبين‬
‫الدين”‪ ،‬وأن تترك الفرصة للجميع كي يعبروا‬
                                                                             ‫كهنة المعبد‪.‬‬
   ‫عن أفكارهم ويطرحوها أمام الناخب الذي‬         ‫النتيجة التي أخلص إليها هي أن التحديث‪-‬‬
 ‫عليه أن يختار بحرية كاملة‪ ،‬ما دام يستطيع‬        ‫التنوير ليس قرا ًرا فوقيًّا‪ ،‬ولا رغبة فردية‪،‬‬

     ‫أن يغير قراره ‪-‬إن اكتشف خطأه‪ -‬بعد‬              ‫لكنها نتيجة حراك مجتمعي شامل على‬
  ‫عدد قليل من السنوات‪ ،‬والتوقف نهائيًّا عن‬           ‫المستويات كافة‪ ،‬ومشاركة واسعة من‬
 ‫ملاحقة المخالفين بسبب أفكارهم وقناعاتهم‬        ‫جميع أطياف أي مجتمع‪ ،‬دون قمع أو قهر‬
 ‫ما لم يعتدوا على الناس والمنشآت‪ ...‬إلخ‪ .‬هذا‬    ‫أو إسكات وتهجير ومطاردة المخالفين‪ ،‬لأن‬
   ‫أو سنظل ندور في دائرة “وهم التحديث”‬          ‫الضمانة الأهم لاستمرار أي طفرة تحديثية‬
 ‫المغلقة‪ ،‬تلك الدوائر التي يأكل بعضها بع ًضا‬       ‫هي الحماية المجتمعية‪ ،‬التي لا تتأ َّتى إلا‬
‫وسط لا مبالاة الجموع الذين لا يدعوهم أحد‬         ‫بإحساس كل فرد أنه شريك فيها وضامن‬
                                                 ‫لاستمرارها‪ ،‬وهذا سيفسر لماذا ب َّدد أولاد‬
                                ‫للمشاركة‬         ‫محمد علي وأحفاده القاعدة التي بناها‪ ،‬كما‬
   3   4   5   6   7   8   9   10   11   12   13