Page 102 - merit 53
P. 102
العـدد 53 100
مايو ٢٠٢3
دلندة زغيدي
(تونس)
الزلمة
تطفئ القناديل ،دعهم يستمتعون بمشاهدة فيلم كم يلزمني من الوقت لكي أنسى؟ هل الزمن كفيل
نادر ،ل َم تحرمهم من رؤية أشلائهم وهي تتناثر بأن ينسيني هول ليلة نقشت في ذاكرتي؟ أجزم
يا سادتي أن لا الزمان ولا المكان ولا النسيان
أمام أعينهم؟».
سطا جندي على دجاجة مذعورة وأحكم قبضته على نفسه يمكن له أن ينسيني تلك الليلة ،ليلة لا زالت
عنقها حتى فصل رأسها عن جسدها ،انتشر دمها، تفاصيلها حية تنبض .كانت القناديل تهتز ،وفتائلها
ترتعش ،والخيام ترتعد ،اشتد الحر على غير العادة،
أغمضت أمي عينيها ،تفرسها الجندي بمقلتين
ملتهبتين ومسح يده الملوثة بدم الدجاجة على خد كانت أمي تتباهى ببطنها الممتلئ اليابس ،سرتها
أمي ،وانحرف بأظافره ليحفر جر ًحا غائ ًرا ،فاختلط بارزة من تحت جلابيتها السوداء الموشاة بالخيوط
دمها بدم دجاجتها .كانت العيون شاخصة ،سرى الحمراء ،بطنها يوحي باقتراب خير انتظرته تسعة
أشهر ،نهداها منتفخان مستنفران ينتظران الصيحة
الخوف في شرايين النسوة ،ولم أميز ساعتها
الأصوات .عويل ،بكاء ،أنين ،حدقت بي أمي عندما الأولى ليد َّرا خي ًرا غير مجذوذ .كانت تمشي على
رأتني أرتعد ،كصوص مبلل الريش ،ورسم ْت بسمة مهل وتمرر راحتها على بطنها لتهدهد رو ًحا فيها.
كانت تبتسم ولمحة حزن خفية تلوح على محياها،
جمعت تحدي العالم كله وبصقت في وجه قاتلها،
مسح ْت دمها بيديها ومررتها على جدائل جلادها مع اقتراب الفجر ،عمت نقنقة الدجاجات المخيم،
المنسدلة على خديه ،فاتقدت عيناه شر ًرا وزمجر: نقنقة غريبة مفزعة ،اختلطت بنواح ديك مكسور
«الجويم ،لا يستحقون الحياة» .وب ُش ُرو ِر الدنيا كلها جناحه ،عاجز عن حماية دجاجاته من شر ثعلب
أجهز على بطنها ،بقرها كبقرة ترنحت وتهاوت، يترصد فريسته .اختلطت الزغاريد بوعوشة الدجاج
عندها رأي ُت ي ًدا طويلة تنتزع أخي من رحم أمي. وطغى صوت أقدام الجند على صوت وقع أقدام
سحب الجندي سروالي ،سطا عليَّ الهلع ،ستر ُت
النسوة وهن يضربن الأديم بأقدامهن الناعمة،
عورتي بيدي .لكنه انقض على عضوي الذكري دبكتهن تخبط الأرض لتوقضها من سبات قد طال:
ومعسه مع ًسا ،ثم جذبه بكل ما أوتي من نقمة، «ألا هبي أيتها السليبة ،أفيقي من غفوتك ،آن لك أن
ختنني الجندي البغيض بطريقته ،تجرعت الموت، تثأري لعرضك وأن تقتلعي عين مغتصبك ،وتقولي
وخالني قد فارقت الحياة .ولكن ها قد كبرت ها أنا!».
وكبر ف َّي ذلك التشوه ،كبرت بسرعة بين رجال لم أد ِر كيف وجدنا أنفسنا على حين غرة محاطين
ذوي بأس شديد ،ولا أذكر أنهم كانوا ينادونني
باسمي حتى أنه عندما يناديني أحدهم بخليل لا بسواد لا بياض فيه ،وامتزجت الموسيقى فجأة
أجيب لأنني تعودت على أن ينادونني «الزلمة». بصيحات فزع ،لا يزال شبح ذلك الجندي الغليظ
صر ُت رج ًل وأنا طفل .وحالما اشتد عودي أهداني الذي هم بضرب القناديل ،فأنزل آخ ُر عصاه برفق
وابتسم مكش ًرا ،فلاحت أنياب طويلة مدببة جاهزة
شيخي بندقية ،أسميتها «راية» على اسم فتاة لقضم لحمنا ،ولا أزال أسمع كلماته الماكرة« :لا