Page 104 - merit 53
P. 104

‫العـدد ‪53‬‬                            ‫‪102‬‬

                                                                 ‫مايو ‪٢٠٢3‬‬

‫ريم القمري‬

‫(تونس)‬

‫الجسد الماخور‬

‫وضعته في مكان التغوط وأحرقته وأنا أتأمله إلى أن‬               ‫أنا لكم الآن‪ ،‬غير أنني لا أشبه أح ًدا‪ ،‬فقدت‬
                                    ‫صار رما ًدا‪.‬‬           ‫كل علاقة لي بما حولي‪ ،‬وهؤلاء المغفلون الذين‬
                                                      ‫يتقاسمون معي هذه القطعة من الأرض التي تسمى‬
  ‫هرعت إل َّي جارتي بعد الظهر مرعوبة‪ ،‬تسألني إن‬        ‫وطنًا لا أعرفهم‪ ،‬لا شيء مشتر ًكا بيننا غير خيانتنا‬
  ‫كنت رأيت الكناري‪ ،‬الذي اختفى بقفصه‪ ،‬فأجبتها‬               ‫لمعنى الإنسانية‪ ،‬كما نشترك أي ًضا في التغوط‬
  ‫مستفسرة‪ :‬ما به؟ قالت إنها لم تعثر عليه‪ ،‬أعربت‬
‫عن حزني لاختفائه متعاطفة معها‪ ،‬أغلقت الباب وأنا‬                                     ‫والتبول والتناسل‪.‬‬
 ‫أبتسم‪ ،‬كنت فع ًل مبتهجة ج ًّدا‪ .‬تبًّا لها ولعصفورها‬    ‫لكن ربما ما يجعلني مختلفة عن الآخرين هو أنني‬

                                       ‫الكناري‪.‬‬            ‫أكره‪ ،‬نعم‪ ..‬أنا أكره إلى درجة الحقد إلى درجة‬
    ‫لن أطلب الغفران من أحد‪ ،‬يمكنكم أن تعتبروني‬          ‫الانتقام من كل شيء؛ بل لقد صرت لا أتقن شيئًا‬

         ‫ساد َّية ومريضة نفسية‪ ،‬تفرغ جام حقدها‬            ‫أكثر من إتقاني لفن الانتقام‪ ،‬ولا شيء سلم من‬
     ‫وأمراضها على عصفور كناري ضعيف‪ ،‬لكنني‬               ‫رغبتي في ذلك الانتقام حتى تلك الكائنات الرقيقة‬
     ‫ببساطة لا أهتم لكم‪ ،‬ولا أحتاج إلى مغفرة فات‬
   ‫أوانها‪ ،‬فمنذ أن أصبح جسدي منته ًكا أدركت أنه‬                                      ‫الجميلة والمبهجة‪.‬‬
      ‫عليَّ أن أحوله إلى حقل ألغام‪ ،‬وأضرم النار في‬        ‫صارت لد َّي أساليبي الخاصة للانتقام‪ ،‬منها ما‬
                                                      ‫فعلته بعصفور كناري جارتي‪ ،‬التي كانت تضعه كل‬
                                        ‫روحي‪.‬‬         ‫صباح في قفص أنيق عند الشرفة‪ ،‬لتدخله عند الظهر‬
      ‫الشقراء التي تجاور الشمس كانت أنا‪ ،‬حملت‬           ‫إلى البيت‪ ،‬وكان يرتق الصباحات بزقزقاته المثيرة‬
   ‫جمالي نقمة ليثبت القدر مرة أخرى أ َّن الجميلات‬
      ‫هن الأسوأ ح ًّظا‪ ،‬كنت أخطو نحو الحياة مثل‬                                 ‫التي تجلب الأنظار اليه‪.‬‬
‫فراشة سعيدة بالضوء لا تخشى الاحتراق‪ ،‬رقصت‬             ‫وذات يوم بعد أن تأكدت أ َّن لا أحد في المكان‪ ،‬مددت‬
‫ركضت‪ ،‬وأحببت الحياة كطفلة‪ ،‬ما أدركت أنها كانت‬          ‫يدي من شرفتي وجذبت القفص‪ ،‬سارعت بالعودة‬

                           ‫وحدها في مهب القدر‪.‬‬          ‫إلى شقتي‪ ،‬سحبت الستائر‪ ،‬وانفردت بذاك الكائن‬
  ‫في سن الثانية عشرة كنت أشبه نعجة خائفة‪ ،‬على‬                               ‫الرقيق الجميل الملون الهش‪.‬‬
‫أربع يركبها زوج أمها وهي صامتة تحبس دموعها‪،‬‬
 ‫طفلة الخطيئة الأبدية تتحمل سياط قضيب بشري‪،‬‬                ‫أخرجته من القفص وضممت كفي عليه‪ ،‬عيناه‬
                                                       ‫الصغيرتان الجميلتان‪ ،‬ريشه الملون الناعم‪ ،‬منقاره‬
    ‫كلما انغرس في أرض جسدها؛ اتسع الشرخ في‬
  ‫روحها أكثر وأكثر‪ ،‬ولم تكن تملك من زاد في هذه‬            ‫النحيل‪ ،‬قلبه الصغير الذي يخفق بشدة في كفي‬
                                                                                        ‫المنقبضة عليه‪.‬‬
     ‫الحياة غير جسد كان كلما نضج ازداد جما ًل‪.‬‬
‫تبًا لهذا الجسد الذي تنبعث منه رائحة عطنه‪ ،‬تشبه‬       ‫م َّسدت ريشه بإصبعي‪ ،‬جلبت خي ًطا ووضعته حول‬
  ‫رائحة بغل أمي يعتليه‪ ،‬ويخترقه متى شاء وحيث‬            ‫رقبته وضغطت‪ ،‬ثم أخذت أمرجحه يمينًا ويسا ًرا‪،‬‬
                                                          ‫وبعدها صرت أعمل به دوائر في الفضاء‪ ،‬دوائر‬
                                          ‫يشاء‪.‬‬         ‫كبيرة وصغيرة‪ ،‬ومن حين لآخر أتأمله وهو ينفق‬
                                                            ‫ببطء‪ ،‬إلى أن تيبس‪ ،‬حينها أخذته إلى التواليت‪،‬‬
   99   100   101   102   103   104   105   106   107   108   109