Page 109 - merit 53
P. 109
107 إبداع ومبدعون
القصة في تونس
عواطف محجوب
(تونس)
الأخطل
والقرف .فطنا لنظراته المندهشة تلتهمهما فاستدارا ألا يمل هؤلاء من ملاحقته؟ رجال ما انفكوا
ناحيته ،قابلاه بوجهين شاحبين اتسعت عيونهما يطاردونه دون الجميع ممن امتلأ بهم الميدان.
حين تأكد أنهم فقدوا أثره ،توقف يسترجع أنفاسه
المنطفئة وبادلاه النظر .استرعى انتباهه الشبه ويشحن رئتيه هوا ًء والأرض تكاد تميد به ،زخات
الغريب بينهما ،غاص في تفاصيلِهما :بقايا دماء من الطلقات تمطر الأرجاء بلا هوادة ولا يوجد
يابسة سدت منخريهما ،وفمان شفاههما غليظة ملجأ يحتمي به سوى الركام ،واصل الركض ببطء
زرقاء انفتحت على شهقة ،وخطان دقيقان من الدم وهو ينوء بحمل رشاش ثقيل .كر وفر وصراخ
ينزان بلا توقف ،والغريب أنه لا يقطر على الأرض حاد لا ينتهي ،أزيز أسلاك كهربائية عالية الضغط
بل يظل معل ًقا .في المجمل بدت ملامحهما خائفة،
رعب قاتم سكن خطوطها .من أين أتت هذه البشاعة يربك تركيزه .هذه الضوضاء العنيفة تحطم
أعصابه ،تسري فيها سريان البرق في السماء،
وأين اختفت أطرافه هكذا بدون سابق إنذار؟ تصعقه بموجات من الألم وتفتت مقاومته إلى
قلب الأمر كثي ًرا في ذهنه وما من تفسير منطقي هباءات ،تباطأت خطواته ،تشنجت أعصابه أكثر،
لهذه الغرابة التي اكتنفت نومه ويقظته .إحساس تحفزت شرايينه والدم يتدفق فيها بقوة وفي كل
عدم الفهم والحيرة ح َمله على التمدد مكانه طلبًا مفصل من مفاصله يشتعل وميض أحمر وينطفئ،
للنوم ثانية ،لكنه كان أبعد من أن يداعب أجفانه، وقرع طبل صاخب يكاد يدك صدره ،فجأة ابتلع
إذ تحفزت أسماعه تلتقط المنبهات من الخارج، كل هذه الضوضاء انفجار هائل هز كيانه.
هدير السيارات وجلبة المقاهي وموسيقى المحلات اصطفقت ُدرف الشباك جراء هبة هواء قوية
فأيقظته وخرج من حالة الالتباس ،جلس مكانه
كلها مدمج ٌة في لحن واحد احتل بيته رغم بعده. فز ًعا متسائ ًل ،أحدث انفجار مسح المكان؟ وأسرع
فكر في وضع سدادات قطنية بأذنيه علها تحجب يطل على المدينة من الشرفة .بدا كل شيء كعهده
عنه الصخب المجنون .قام يبحث عن القطن لكنه به ،عدا علبة رأسه التي ضجت بأعنف الأصوات،
اصطدم بحقيقة قصوره عن فعل أي شيء في غياب حتى أن الانفجار الذي رآه وهو في قرار النوم
يديه .انقلب عج ُزه إلى ُس ْخط وطفق يركل كل ما لم يتجاوز جمجمته ،فقط خلَّف له صدا ًعا شدي ًدا
يصادفه .كز على أسنانه ،تمنى لو يمسك بالرأسين عصف به ،رفع يديه ليدلك جبينه بأصابعه عل الألم
يخف ،فلم تتحرك مفاصله كعادتها الآلية .فوجئ
ويذيبهما في قدر الطبخ المضغوط أو يشويهما بغياب أطرافه العلوية كأنها بترت من منبتها بينما
ويرميهما للكلاب ..توالدت الأفكار في ذهنه وقد رأسان يتأرجحان عن يمينه وعن يساره .أشاح
اكتست صبغة إجرامية أخافته ،إذ يمكن أن يكون بوجهه مشمئ ًزا ثم تشجع وعاود النظر ،المنظر
إرهابي قاتل نائم بداخله فيستيقظ .أخمد خواطره ذاته ولم يكن واه ًما ،رأسان غريبان يطفوان بقربه
مرغ ًما وركز على الضجيج الذي يصله حا ًّدا كأنه لا يدري من أين انبثقا .تأملهما بمزيج من الحيرة
في خضمه .ونظراته غائمة لا تحول عن الرأسين
الطافيين قربه .ارتفع صوته الداخلي يحدثه بأن
تعدد رؤوسه يزيد من حدة حواسه ويضاعف