Page 110 - merit 53
P. 110

‫العـدد ‪53‬‬  ‫‪108‬‬

‫مايو ‪٢٠٢3‬‬

    ‫مقدرتها ومن الطبيعي أن يسم َع أبعد الأصوات‬
 ‫ويلتق َط أض َعفها‪ ،‬ولا غرابة إن أنصت إلى الصمت‪.‬‬
  ‫أصاخ السمع وكذلك فعل رأساه إذ مال كل واحد‬

      ‫منهما إلى جهة وركزا معه‪ :‬هذا سائق سيارة‬
 ‫الأجرة ينادي لوجهته في المحطة‪ ،‬وهذا بائع الآلات‬

     ‫المنزلية ُيشهر بضاعته المقلدة على أنها أصلية‪،‬‬
  ‫عسل حر! عسل حر! بالتأكيد هذا الشيخ عبد الله‬
 ‫يمدح عسله المغشوش‪ .‬أعجبته لعبة الأصوات هذه‬
‫فمضى يحفز أسماعه إلى مسافات أبعد‪ ،‬تناهى إليه‬
‫صوت امرأة عجوز توبخ ابنها على سهره ومعاقرته‬
  ‫الخمرة‪ ،‬يزعجها أن يمضي النهار نائ ًما وشخيره‬
  ‫يملأ الدار‪ .‬في ركن آخر تعالى خصام محتدم بين‬

     ‫زوجين وليس ببعيد تصاعدت آهات وشهقات‬
   ‫شبقة‪ .‬أصابه الخجل لتلصصه فعدل طاقته نحو‬
   ‫حاسة البصر‪ ،‬لم لا يجرب الوصول إلى تفاصيل‬

                     ‫دقيقة تخفيها تجاعيد العالم؟‬
   ‫اتكأ جوار النافذة فاقتدى به الرأسان يستطلعان‬

     ‫معه الفضاء المشرع أمامه‪ ،‬جبل موحش يقابله‬
    ‫على خط الأفق‪ .‬سرح بصره في تلافيف الجبل‪،‬‬
    ‫التقط حركة لا يمكن أن تخطئها العيون الستة‪،‬‬
   ‫ظلال تتحرك وتستتر بجذوع الأشجار وتقترب‬
     ‫من قطيع يرعى في السفح‪ .‬تفرس في الأشباح‬
   ‫عله يظفر برؤية ملامحها إذ بدت الوجو ُه ملثمة‪،‬‬
‫والأجساد مكسوة بثياب تماهت ألوانها مع الطبيعة‬
   ‫بالكاد يميزها‪ .‬لعلهم ينوون سرقة القطيع‪ ،‬خمن‬
 ‫بقلق‪ ،‬تأرجح الرأسان وبصوت واحد هتفا كأنهما‬
     ‫يجيبانه‪« :‬الذئاب المنفردة غادرة‪ ،‬عيونها تنذر‬
 ‫بالقتل»‪ .‬لم يدرك ما قصدا بذلك ولم يحاول الفهم‪،‬‬
 ‫أشاح عنهما وأطلق عنان نظره يقفز بين الشرفات‬
 ‫والنوافذ‪ ،‬هذه سيدة تنشر الغسيل‪ ،‬وأخرى تقطف‬
   ‫رأ ًسا من الثوم المعلق‪ ،‬وذاك مسترخ أمام التلفاز‬
     ‫وآخر يطالع كتا ًبا‪ ،‬وعلى تخوم المنازل البعيدة‬
   ‫رأى مجموعة من الشباب ينسحبون نحو الخلاء‬
     ‫وأحدهم يحمل كي ًسا أسود‪ ،‬حت ًما هناك جلسة‬

      ‫خمر بين الأشجار‪ ،‬عرج على المقاهي‪ ،‬مكتظ ٌة‬
     ‫كالعادة وعدد الرواد يتضاعف بسرعة‪ ،‬والكل‬
     ‫مشغول بالحديث ولعب الورق أو منغمس مع‬
   ‫هاتفه‪ ..‬يا لهذه النوافذ المشرعة من الحياة‪ .‬تنهد‬
 ‫واستلقى على الأريكة‪ ،‬رويدا رويدا تلاشت الصور‬
   105   106   107   108   109   110   111   112   113   114   115