Page 111 - merit 53
P. 111

‫‪109‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في تونس‬

    ‫فيه‪ ،‬ثم علقه منسد ًل على المشجب‪ .‬حشر نفسه‬                    ‫وخفتت الأصوات في رأسه حتى غفا‪.‬‬
   ‫بين تلابيبه وانحنى قلي ًل حتى إذا وجده مقاب ًل‬       ‫تقافز الرأسان فوقه يقاومان استسلامه للنوم‪،‬‬
  ‫بدقة لكتفيه استقام ليستقر البرنس فوقهما ولفه‬         ‫يريدان مزي ًدا من المرح‪ ،‬لكن سلطان الكرى كان‬
 ‫إلى ما تحت ُركبتيه‪ ،‬وحرص على التقاء طرفيه من‬            ‫أقوى‪ ،‬وسقط في قرار النوم‪ .‬عادت الضوضاء‬
‫الأمام وتأكد من اختفاء الرأسين تحته اللذين اكتفيا‬    ‫الصاخبة تحتل مساحات رقاده والأضواء الحمراء‬
 ‫بإطلاق ضحكات سمجة أغاظته‪ ،‬سحب قف َل الباب‬            ‫تومض بشدة‪ .‬أ َمره عقله بالهرب من هذا الجنون‪،‬‬
                                                       ‫تأهب للركض لكن كمية هائلة من الركام ردمته‬
                                   ‫بفمه وخرج‪.‬‬            ‫وقطعت نفسه‪ .‬أفاق وصراخه الهستيري يملأ‬
 ‫سيجلس قلي ًل في المقهى ثم يقصد المطعم ليتعشى‪،‬‬           ‫المكان‪ ،‬اهتز الرأسان جواره يضحكان سخرية‬
‫فطوال يوم كامل لم يأكل شيئًا بعدها سيشتري ما‬        ‫منه‪ .‬حرك أقدامه يريد ركلهما لكنه لم يطلهما بينما‬
  ‫ينقصه من البقالة وأخي ًرا سيتمشى قلي ًل قبل أن‬      ‫قهقاتهما لا تتوقف‪ .‬التجأ إلى رأسه عله يصيبهما‬
                                                       ‫فتلقى الحائ ُط ضرباته وكاد يشجه‪ ،‬كانا يجيدان‬
   ‫يعود أدراجه إلى البيت‪ .‬لم تتجاوز أفكاره قشرة‬       ‫تفاديه وهما طافيان‪ .‬تمنى لو ُيغرق رأسه في الماء‬
 ‫دماغه لكنه فوجئ بالرأسين يهتزان تحت البرنس‬             ‫ليطفئ نيران غضبه‪ ،‬أنى له ذلك وهو عديم‬
                                                      ‫الأطراف‪ ،‬غير أنه استمات في فتح صنبور‬
    ‫ويهتفان بصوت واحد‪« :‬أخي ًرا سنأكل! مرحى‬              ‫المياه ليشرب ويهدئ ضجيج أمعائه‬
  ‫سنتجول!»‪ُ .‬هتافهما ذكره بحقيقة أنه لا يستطيع‬
                                                                 ‫المهتاجة من شدة الجوع‪.‬‬
    ‫فعل شيء مما فكر فيه طالما أن هذين الغرابين‬            ‫لم تسترخ ملام ُحه المتجهم ُة ولا‬
  ‫يرافقانه‪ .‬وصل المقهى والتردد يكبله‪ ،‬جال طر ُفه‬     ‫غادره شعو ُره بالقلق والخوف‪ ،‬يجب‬
  ‫في المكان المكتظ‪ ،‬حزم أمره ودلف‪ ،‬انتحى الطاول َة‬      ‫أن يهرب من هذه الأجواء الكئيبة‪.‬‬
                                                      ‫حاول ارتداء معطفه فلم يفلح‪ ،‬بأسى‬
    ‫الوحيد َة الشاغر َة في زاوية بعيدة وجلس موليًا‬    ‫عاين كمي قميصه الفارغين يحاذيهما‬
   ‫دبره للرواد‪ .‬طلب قهوة وعقله لا يبرحه التفكير‬       ‫الرأسان طافيان لا يسقطان أب ًدا‪ .‬كيف‬
   ‫في كيفية استعادة يديه حتى جاء فنجان القهوة‪،‬‬          ‫يمكنه أن يواريهما عن الأنظار ونفسه‬
‫أحنى رأسه ليأخذ رشفة منه فإذا به يرى الرأسين‬          ‫تتوق إلى الخروج الآن‪ ،‬لا يريد أن يلفت‬
   ‫وقد قفزا فوق الطاولة وتزاحما بشدة كل منهما‬           ‫الأنظار إليه‪ ،‬ولا بث الرعب في كل من‬
 ‫يريد احتساء القهوة أو ًل‪ .‬نهرهما محاذ ًرا أن يرفع‬  ‫يلاقيه‪ .‬بعد تفكير اهتدى إلى أن يرتدي‬
 ‫صوته بيد أنهما لم يتوقفا بل صاحا وأطلقا سي ًل‬       ‫ُبرن ًسا كونه فضفا ًضا ويقدر على‬
‫من السباب والشتائم‪ ،‬فأحدثا جلبة في المكان جلبت‬       ‫مواراة الرأسين بسهولة‪ .‬بفمه‬
                                                        ‫فتح الصندوق الخشبي‬
     ‫إليه الأنظار‪ ،‬منظر مرعب قابل الرواد‪ ،‬رأسان‬         ‫العتيق‪ ،‬انحنى بجذعه‬
‫شاحبان منكوش شعرهما ملامحهما منطفئة ينزان‬                ‫داخله وقلب الثياب‬
                                                       ‫التقليدية التي ورثها‬
   ‫د ًما ويصرخان‪ .‬الدهشة أربكت الجميع وربطت‬             ‫عن والده‪ ،‬عثر على‬
 ‫ألسنتهم‪ ،‬تشجع النادل ووقف في المنتصف وأشار‬            ‫البرنس‪ ،‬عض عليه‬
                                                    ‫بأسنانه ورفعه‪ ،‬جاهد‬
    ‫ناحيته صائحا‪« :‬إرهابي قاطع الرؤوس‪ ،‬رأيته‬            ‫لينفض عنه رائحة‬
                          ‫يمزج دماءها بالقهوة»‪.‬‬         ‫عطن السنين وخز‬
                                                      ‫الصوف الذي عشش‬
  ‫لم يكن أمامه من مخرج سوى النافذة‪ .‬ارتكز على‬
   ‫يديه بقوة وقفز منها‪ .‬أطلق ساقيه للريح وجمع‬

     ‫غفير من الرجال يطاردونه بينما طفا الرأسان‬
   ‫لوحدهما في المقهى أمام شاشة التلفاز يشاهدان‬

       ‫مذيع نشرة الأخبار يسرد خب ًرا بكل أسف‪:‬‬
  ‫إرهابيون يذبحون راعي الأغنام السلطاني للمرة‬
‫الثانية في سفح جبل‪ ..‬صرخ الرأسان رعبًا وسقطا‬

                            ‫على الأرض هامدين‪.‬‬
   106   107   108   109   110   111   112   113   114   115   116