Page 113 - merit 53
P. 113

‫‪111‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في تونس‬

  ‫القرى والمدن رهن إشارته ينتظرون مباركته كي‬         ‫فالتوت أمعاؤك وآلت حالك إلى سوء وانفجرت أو‬
    ‫يأخذوا في تكوين أول حركة تتخذ مرجعها من‬          ‫مت‪ ،‬ألا تموت حينها عاصيًا منبو ًذا؟ فكيف وأنت‬
           ‫صفة ملازمة للإنسان مشر ًقا ومغر ًبا‪.‬‬       ‫أبعد من هذا‪ ،‬وأقرب إلى الطاعة والتسليم‪ .‬ثم إن‬
                   ‫تنحنح الشيخ قبل أن يسألهم‪:‬‬      ‫ابن آدم أيها الشيخ الجليل كائن ض َّراط‪ ،‬كذا أراد له‬
  ‫أترون ح ًّقا أن حركة كهذه يمكن أن تجد صداها‬       ‫ربك أن يكون‪ ،‬فمن أين له بطهارة لا يبلغها مطل ًقا‬
                         ‫عند أهل القرى والمدن؟‬
                  ‫فقرفص أحد المريدين متحم ًسا‪:‬‬                       ‫بسبب جبلته على إطلاق الريح؟‬
     ‫إن أول تح ٍّد أمامنا هو أن نوح طائفة الفسوة‬     ‫لما لاحظ الحاضرون أن الشيخ تحرك‪ ،‬وخرج من‬
    ‫وطائفة الضراط‪ ،‬وإقناعهما بأننا أبناء عمومة‪،‬‬    ‫إطراقه‪ ،‬وأخذت أساريره تنفرج‪ ،‬وتعود إليها بعض‬
                                                      ‫حمرة افتقدها منذ زمن‪ ،‬أيقنوا أن كلام المريد قد‬
 ‫وليس لنا سوى وضع اليد في اليد لمواجهة أعدائنا‬
  ‫الذين اعتبروا ضرطتكم المقدسة علامة إمبريالية‬                 ‫وقع في نفسه‪ .‬فاندفع مريد ثان قائ ًل‪:‬‬
                                                   ‫اعلم يا شيخنا أن الضراط في مذهبنا محمود‪ .‬ولقد‬
                           ‫وأعلنوا علينا الحرب‪.‬‬
                                                      ‫ضرطت أمة آدم من زمن نوح إلى أيامنا‪ .‬وليس‬
               ‫***‬                                  ‫فيه من عيب سوى أن بعض النفوس التي ابتعدت‬

   ‫خلال شهر بات الجميع على يقين من أن الشيخ‬            ‫عن الدين جعلته مجلب ًة للضحك ومبعثًا للتندر‪،‬‬
 ‫قد أطلق الريح‪ ،‬ولكنهم استووا فريقين متمايزين‪،‬‬        ‫وإن كانت تلك الخصلة فينا دون خلق الله كلهم‪.‬‬
                                                      ‫ولعل تلك الفئة قد مالت إلى كراهة الضراط لأنه‬
     ‫حتى لم يبق من الناس أحد إلا كان فسو ًّيا أو‬   ‫خصلة في الشيطان الذي ثبت بالنص أن له ضرا ًطا‪،‬‬
  ‫ضراطيًّا‪ .‬باستثناء جماعة الإمبريالية التي ضاع‬    ‫ولكنهم تناسوا أن للشيطان ضراط صوت فحسب‪،‬‬
 ‫صوتها في جلبة الخلاف بين الطائفتين الأوليتين‪.‬‬        ‫ولابن آدم ضراط الصوت والرائحة‪ ،‬وهنا مكمن‬
 ‫ولم تعد ترى في كل مكان سوى التباحث في شأن‬
‫الصوت الذي جلجل به الشيخ أول مرة في مجلسه‪.‬‬              ‫التلبيس مع أن الفرق بيِّن للعاقل‪ .‬وقد جاء في‬
                                                    ‫محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني في الصفحة‬
    ‫بنى الضراطيون مضارط في أنحاء متفرقة من‬            ‫السادسة والأربعين وأربع مائة من الجزء الأول‬
      ‫البلاد‪ ،‬وجعلوها منارات للعلم‪ ،‬ونحا نحوهم‬      ‫أن عمر رضي الله عنه ضرط على المنبر بينما كان‬
                                                   ‫يخطب‪ ،‬فقال‪« :‬أيها الناس إني ميز ُت بين أ ْن أخا َف‬
 ‫الفسائيون فأسسوا المفاس َي في كل مكان وأخذوا‬        ‫الله وأخا َف ُكم‪ ،‬فرأي ُت خو َف الله أولى‪ ،‬ألا وإني قد‬
 ‫يجتمعون فيها ويتباحثون في علوم الفساء‪ .‬وكان‬        ‫َخر َج ْت مني َض ْرط ٌة‪ ،‬وها أنا أتوضأ وأعود»‪ .‬وكذا‬

   ‫أن اتفق الفسويون على يوم مقدر هو ثالث أيام‬           ‫فعل الحجاج لما ضرط على المنبر بينما يخطب‪،‬‬
 ‫الأسبوع‪ ،‬يلتقون فيه دور ًّيا في مفاسيهم المقدسة‪،‬‬  ‫فأطلق عبارته الشهيرة‪« :‬ألا إن كل جوف ضروط»‪،‬‬
‫فيتفاسون من الضحى حتى مغيب الشمس بعد أن‬            ‫ثم أمر بالماء فتوضأ‪ .‬وقال غير واحد إن أبا الأسود‬
‫يطلوا وجوههم بالأزرق الفاتح‪ .‬واتخذ الضراطيون‬        ‫الدؤلي ضرط عند معاوية‪ ،‬وأبو الأسود قد صحب‬

     ‫خامس أيام الأسبوع يو ًما يلتقون فيه للعبادة‬       ‫عليًّا وشهد معه صفين ووضع علم النحو‪ .‬فلا‬
 ‫فتضج مضارطهم بالانفجارات من مطلع الشمس‬                           ‫تقسو على نفسك يا شيخنا الجليل‪.‬‬

    ‫حتى الضحى‪ .‬وكثرت حلقات العلم عند هؤلاء‬                ‫بدت على وجه الشيخ إشراقة من وقع كلام‬
  ‫وأولئك‪ ،‬ونشأت مدارس يطور كل منها نظريات‬          ‫مريديه‪ ،‬فأخذتهم الحماسة‪ ،‬وجعلوا يطوفون حوله‬
   ‫في الضراط والفساء ويتناقلونها كاب ًرا عن كابر‪.‬‬  ‫ويتضارطون ضرا ًطا اهتز له المكان اهتزا ًزا قائلين‪:‬‬
  ‫وتبارز الفلاسفة‪ ،‬وأُلفت الكتب‪ ،‬وأنشئت دواوين‬
  ‫الفساء والضراط‪ .‬وفي ذلك الخضم اشتهر كتاب‬              ‫ها نحن نضرط عند مولانا كي نرفع ما به من‬
    ‫لمؤلف مجهول عن فضل الفسوة على الضرطة‪،‬‬          ‫الحرج‪ ،‬وليس له بعد الساعة من خوف ولا حشمة‬
 ‫وأُلفت كتب مضادة تدافع عن فضل الضرطة على‬
 ‫الفسوة‪ ،‬وصار علماء الضراط يفصلون القول في‬              ‫ولا أسف‪ ،‬فليخرج شيخنا مناد ًيا في الناس أن‬
                                                     ‫الضراط مقدس‪ ،‬ولا يخافن لومة لائم‪ .‬فالناس في‬
   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117   118