Page 35 - merit 53
P. 35

‫لقد ألزم الشاعر صلاح عبد الصبور‬                                                   ‫بدر شاكر السياب‬

       ‫عيني القمر الشاحب هنا البكاء‬                                  ‫سياق لسعة السجان أو لذعته‪ ،‬ولا يجد‬
                                                                      ‫إ َّل أن يأمر نفسه‪ ،‬أو يأتمرها ( َف ْ َل ْه َر ْع‬
     ‫(بكتا مطًرا فوق جبيني المتعب)‪،‬‬                               ‫للغرفة)‪ ،‬إن البرد قد داخله ولذعه‪ ،‬والهرع‬
    ‫إنه يص ِّدر البكاء هنا لعيني القمر‪،‬‬                    ‫اعتلاه وتلبسه‪ ،‬فلا ملجأ له إلا تلك الغرفة‪ ،‬بعربتها‬
                                                               ‫السوداء‪ ،‬وشرفتها المظلمة‪ ،‬ولك أن تتخيل أمر‬
            ‫لكن بكاءهما أضحى مطًرا‪،‬‬                             ‫الهرع‪ ،‬وما يلزمه‪ ،‬أو يتبعه من عوارض الفقد‬
      ‫حيث يعود بنا هنا إلى (ال َّس َّياب)‬                  ‫المتعددة‪ ،‬حيث اكتشف حقيقة ذاته‪ ،‬بل وجوده (لم‬
     ‫وأنشودة المطر‪ ،‬أو إلى الأسطورة‬                         ‫أدرك أنى عريان)‪ ،‬إنه هنا ينفي يقينه بالحياة‪ ،‬أو‬
                                                              ‫حتى وجوده المادي الماثل‪ ،‬وبين العري وإدراكه‬
    ‫الفرعونية وانبعاث المطر‪ ،‬وليس‬                           ‫مسافة زمنية طويلة‪ ،‬لا يدركها إلا الشاعر نفسه‪،‬‬
                                                                ‫تمتد إلى ما قبل ظلمة الغرفة واسوداد العربة‬
      ‫ذلك بغريب‪ ،‬أو عجيب على شاعر‬                               ‫بدخانها الوهمي‪ ،‬إنه عري جامع لكل مقدرات‬
                                                               ‫الحياة لديه‪ ،‬لم يكن ‪-‬كما تبين الصورة‪ -‬عر ًيا‬
     ‫كصلاح عبد الصبور‪ ،‬ع َّد واح ًدا من‬                       ‫للجسد فحسب‪ ،‬بل إنه عري جامع وممتد‪ ،‬وما‬
            ‫الشعراء الثائرين الرمزيين‪.‬‬                         ‫الإحساس بلذعة البرد‪ ،‬أو الهروع‪ ،‬أو الهروب‬
                                                            ‫إلى الغرفة إلا هرو ًبا كليًّا (معنو ًّيا وماد ًّيا)‪ ،‬وليس‬
                ‫بالحقيقة الجوفاء‪ ،‬أو بالأحرى أنه‬               ‫هرو ًبا من البرد فحسب‪ ،‬إنه هروب‪ ،‬بل هروع‬
‫يعيش مكشو ًفا‪ ،‬ولا يدرى بحقيقة وجوده‪ ،‬إنه يقدم‬                 ‫إلى المأوى (الغرفة)‪ ،‬وما الغرفة هذه إلا رمزية‬
‫صورته السابقة الجامدة المتبلدة التي لم يتيقنها إ َّل‬       ‫مكانية تعنى الإيواء والاحتماء من مقدرات الأرض‬

  ‫الآن‪ ،‬ولما أدرك حقيقته تلك كان عليه أِن يأوي إلى‬                                    ‫والسماء السلبية م ًعا‪.‬‬
   ‫ملاذه (غرفته)‪ ،‬وبين تشاؤمه من غرفته المظلمة‬                 ‫إن الشاعر صلاح عبد الصبور لم يدرك حقيقة‬

     ‫السوداء‪ ،‬المرعبة في بدء القصيدة‪ ،‬وهروبه‪ ،‬بل‬                 ‫عريه إلا في خاتمة قصيدته تلك‪ ،‬أو بالأحرى‬
    ‫هروعه إليها في منتهاها‪ ،‬تتجلى شخصية صلاح‬                 ‫خاتمة مسيرته‪ ،‬إنه يقر بالحقيقة‪ ،‬من خلال نفيه‬
   ‫عبد الصبور الثائرة المفارقة‪ ،‬حيث يجمع الأرض‬
‫والسماء‪ ،‬والسلب والإيجاب‪ ،‬والظلمة والقمر‪ ،‬والمطر‬                ‫لإدراك عريه (إ َّل الآن)‪ ،‬وما سبق كان إيها ًما‬
    ‫والدخان‪ ،‬وما إلى ذلك من مفردات متقابلة مرة‪،‬‬
‫ومتألفة مرة أخرى؛ ليستعيض به وبها واق ًعا جدي ًدا‬
 ‫ومأمو ًل‪ ،‬واق ًعا متس ًعا وآمنًا وأخضر ومني ًرا‪ ،‬بعي ًدا‬

             ‫عن الظلمة والسواد والدخان والضيق‬

                             ‫الهوامش‪:‬‬

    ‫* أستاذ الأدب العربي‪ ،‬كليه دار العلوم جامعه‬
      ‫المنيا‪ ،‬وعضو اللجنة العلمية لترقيه الأساتذة‪.‬‬

 ‫‪ -1‬شجر الليل‪ ،‬ديوان صلاح عبد الصبور‪ ،‬الهيئة‬
  ‫المصرية العامه للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬قصيدة رقم (‪)4‬‬

            ‫من تأملات ليليَّة‪ ،2015 ،‬ص‪.18 -17‬‬
   30   31   32   33   34   35   36   37   38   39   40