Page 26 - تنوير 4-8
P. 26

‫لجنة الفلسفة وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا ‪ -‬المجلس الأعلى للثقافة‬

‫أمـا العلـوم العمليـة يقسـمها إلـى ثلاثـة هـى‪ :‬الأخـاق‪،‬‬        ‫يمكـن أن نسـميه علـم مـا و ارئـي أي ‪،Meta-Sciences‬‬
‫موضوعهـا الفعـل الإنسـاني بالنسـبة للفـرد‪ ،‬وتدبيـر المنـزل‬     ‫وهـو شـيء قـد أكـد عليـه أوجسـت كونـت حيـن أرى أن‬
‫وموضوعـه الفعـل الإنسـاني فـى الأسـرة‪ ،‬والسياسـة‬               ‫يضـاف إلـى العلـوم المتخصصـة علـٌم جديـٌد يـدرس الأمـور‬
‫وموضوعهـا الفعـل الإنسـاني داخـل الجماعـة أو الدولـة‪.‬‬          ‫العامـة المشـتركة بينهـم‪ ،‬ويوسـع أبحاثهـم ويعممهـا حتـى‬
                                                               ‫يحيـط بالعلـم مـن حيـث هوعلـم‪ ،‬ولا ينتظـم هـذا الأمـر‪ ،‬ولا‬
‫أمـا المنطـق لـم يدخـل ضمـن هـذا التصنيـف‪ ،‬فقـد اعتبـره‬        ‫يتهيـأ إلا للفيلسـوف الـذي يـدأب فـي البحـث عـن كليـات‬
‫أرسـطو آلـة العلـوم (أو أرجانونـاً ‪ ،)Organon‬حيـث جعلـه‬        ‫العلـوم‪ ،‬ويفـرغ مجهـوده فـي معرفـة طرقهـا ومبادئهـا‪ ،‬وبيـان‬
‫مدخـاً للعلـوم‪ ،‬لأن موضوعـه صـورة الفكـر بصفـة عامـة‪،‬‬          ‫علاقاتهـا بعضهـا ببعـض ‪ ،‬حتـى ينكشـف لـه الغطـاء عـن‬
‫لا مادتـه‪ ،‬لهـذا كان المنطـق عنـده أقـرب إلـى الفـن باعتبـاره‬  ‫حـدود المعلـوم و المجهـول‪ ،‬وي ّطِلـع علـى نهايـات العلـوم‪،‬‬
                                                               ‫ويرجـع كثرتهـا الظاهـرة إلـى وحدتهـا العميقـة‪ ،‬وهـذا الأمـر‬
                            ‫صناعـة التفكيـر الدقيـق(‪.)9‬‬        ‫شـاق‪ ،‬وطريقـه وعـر‪ ،‬عزيـز المطلـب‪ ،‬لايمكـن الوقـوف‬

‫وممـا لا شـك فيـه أن مفكـري العـرب قـد تأثـروا بالتصنيـف‬                        ‫علـى حقيقتـه إلا بتصنيـف العلـوم»(‪.)8‬‬
‫الأرسـطي للعلـوم‪ ،‬لكـن لابـد أن نضـع فـى الاعتبـار أيضـا‬
‫حجـم الجهـد الكبيـر الـذى بذلـه العـرب فـى مجـال تصنيـف‬        ‫إذن مـاذا عـن تصنيفـات العلـوم عنـد العـرب‪ .‬لنبـدأ بـأول‬
‫العلـوم‪ ،‬حيـن قّدمـوا أكثـر مـن رؤيـة علميـة ومنهجيـة‪ ،‬تعبـر‬   ‫تصنيـف قدمـه العلمـاء العـرب‪ ،‬وهـو تصنيـف جابـر بـن‬
‫عـن وجـود مصـادر عربيـة إسـامية‪ ،‬تقـف جنبـا إلـى جنـب‬          ‫حيـان وصـولا إلـى تصنيـف ابـن رشـد مـرو ار بالكنـدي و‬
‫مع تلك المصادر الخارجية الأخرى‪ ،‬لذلك يقول د‪ .‬عاطف‬              ‫الفا اربـي‪ .‬لكـن بعـد إعطـاء فكـرة موجـزة عـن التصنيفـات‬
‫الع ارقي‪« :‬من الأخطاء الشائعة إرجاع تصنيفات المسلمين‬
‫للعلـوم إلـى مصـادر خارجيـة أجنبيـة فحسـب‪ ،‬بـل لابـد وأن‬                             ‫التـي عرفهـا العـرب وتأثـروا بهـا‪:‬‬
‫نضـع فـى اعتبارنـا وجـود مصـادر دينيـة إسـامية بـارزة تقـف‬
‫جنًبـا إلـى جنـب مـع اسـتفادتهم مـن المصـادر اليونانيـة”(‪.)10‬‬  ‫ومـن المعـروف أن تصنيـف أرسـطو للعلـوم كان هـو‬
                                                               ‫المصـدر الرئيسـي للفكـر العربـي فـى العصـر الوسـيط‪ ،‬فقـد‬
‫إذن لقد تأثر الفلاسـفة العرب‪ ،‬والمتكلمون بالتصنيف‬              ‫قسـم أرسـطو الفلسـفة قسـمين كبيريـن همـا‪ :‬العلـوم النظريـة‪،‬‬
‫الأرسـطي للعلـوم‪ ،‬وأضافـوا إليـه العلـوم الدينيـة‪ ،‬فجعلـوا‬
‫مجموعـة العلـوم الدينيـة وعلـوم اللغـة تسـير جنبـاً إلـى جنـب‬                                       ‫والعلـوم العمليـة‪.‬‬
‫مـع مجموعـة العلـوم النظريـة(‪ .)11‬غيـر أن الأمـر لـم يكـن‬
‫مجـرد وضـع شـيء بجانـب شـيء وضـع جـوار لا اربـط‬                ‫أمـا العلـوم النظريـة فهـي مـن شـأن العقـل‪ ،‬والعمليـة‬
‫بينهمـا؛ بـل كان يعـي الفلاسـفة و العلمـاء العـرب مـا بيـن‬     ‫مـن شـأن الإ اردة؛ فالأولـى تسـعى إلـى المعرفـة لذاتهـا‪،‬‬
‫العلـوم مـن علاقـات وثيقـة‪ ،‬هـذا مـا نجـده عنـد الكنـدي‬        ‫والثانيـة تهـدف الوصـول إلـى غايـات عمليـة سـلوكية مـن‬
‫الـذي قـدم الرياضيـات فـي تصنيفـه وربطهـا بالمنطـق ‪ ،‬وهـو‬      ‫و ارء هـذه المعرفـة‪ .‬ويعـود أرسـطو فيقسـم العلـوم النظريـة‬
‫شـيء لـم نعرفـه إلا علـى يـد برت ارندرسـل حديثا‪،‬كمـا هـو‬       ‫إلـى‪ :‬الطبيعيـات والرياضيـات‪ ،‬والإلهيـات‪ ،‬وذلـك بحسـب‬
‫مشـار أعـاه‪ ،‬كمـا ربـط الفا اربـي بيـن علـوم اللغـة والمنطـق‬   ‫موضـوع كل علـم‪ ،‬فالعلـم الطبيعـي يـدرس المحسـوس‬
‫بعلاقـات وثيقـة‪ ،‬وهـو شـيء لـم نعرفـه أيضـا إلا حديثـا علـى‬    ‫المتحرك‪ ،‬والعلم الرياضي يدرس مالا يتحرك‪ ،‬لكنه يتحقق‬
                                                               ‫فـى أشـياء حسـية‪ ،‬أمـا العلـم الـذى يبحـث فـى اللامتحـرك‪،‬‬
             ‫يـد الوضعييـن المناطقـة وغيرهم(‪...)12‬إلـخ‪.‬‬        ‫اللامـادي‪ ،‬الموجـود مـن حيـث هـو وجـود فحسـب؛ هـو علـم‬
                                                               ‫مـا بعـد الطبيعـة أو الميتافيزيقـا أو الإلهيـات التـى تبحـث‬

                                                                                       ‫فـى الماهيـات الروحيـة الثابتـة‪.‬‬

                                                               ‫‪26‬‬
   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31