Page 72 - merit mag 36- dec 2021
P. 72

‫العـدد ‪36‬‬   ‫‪70‬‬

                                                    ‫ديسمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫كنت أود أن أجد زعي ًما مثل أبي‪ ..‬أقبله‪ ..‬أشعر معه‬         ‫خا ًّصا‪ ..‬سمعت هذا كثي ًرا‪ ..‬قالت‪ ..‬وابتسمت‬
   ‫بالحنان الذي افتقدته برحيل أبي‪ ..‬لكن النهر في‬                                  ‫والتزمت الصمت‪.‬‬
   ‫هذه اللحظة بدا قاسيًا وعني ًفا‪ ،‬بشكل لم آلفه من‬
    ‫قبل‪ ،‬أحسست بأنني أغار من والدي‪ ،‬وجد بيتا‬        ‫وبعد محاولات وتخطيطات كثيرة نجحت محاولتنا‬
                                                     ‫في أن تأتي لزيارتنا ‪-‬حيث أوجدنا علاقة بين أمها‬
 ‫يعيش فيه‪ ،‬وزعي ًما يقبله على صفحة النهر ويفرح‬
                         ‫معه ويقول له‪“ :‬أحبك”‪.‬‬          ‫وأمي‪ -‬وعندما دخلت مع أمها بيتنا كان بحثها‬
                                                                              ‫الدائم عن هذه الشرفة‪.‬‬
               ‫أغار من والدي؛ لأنه مات في بيته‪..‬‬
‫نظرت لأمي من خلف نظارتي السميكة التي امتلأت‬              ‫ولما توقفت العلاقات العائلية بين أسرتينا كان‬
                                                    ‫بمقدورها أن تقف معي بجوار الشرفة ونرى النهر‬
 ‫عدساتها بالدموع‪ ،‬كانت تلملم الأشياء المتبقية من‬     ‫م ًعا‪- ،‬مرة أخرى‪ ،-‬وفي هذه الشرفة قبلتها القبلة‬
                                         ‫المنزل‪.‬‬     ‫الأولى‪ ،‬وكان للنهر روعة أكبر من أي مرة أخرى‪،‬‬

‫‪ -‬هيا يا بني‪ ..‬نرحل‪ ،‬قبل أن يأتي ويحرجنا‪ ..‬هكذا‬        ‫وفي هذه الشرفة احمرت وجنتاها وجرت تحمل‬
                                     ‫قالت أمي‪..‬‬       ‫حقيبتها وتغادر المنزل ‪-‬خج ًل‪ -‬لكنَّا كنَّا تواعدنا‬

   ‫وكنا قد بحثنا عن شقة صغيرة بعيدة عن النهر‪،‬‬                                          ‫على الزواج‪..‬‬
     ‫وضعت فيها أمي بقية أشلائنا‪ ..‬ووضعت فيه‬          ‫‪ -‬هل تذكر هذا أيها النهر‪ ،‬كنت شاه ًدا علينا وكنَّا‬
               ‫أصص الزعتر‪ ..‬وقفت أمي حائرة‪.‬‬
     ‫‪ -‬أين سنضع أصيص البوتس‪ ،‬وأين سنمده؟‬                                            ‫في هذه الشرفة‪..‬‬
                           ‫قالت أمي‪ ..‬ولم أجب‪..‬‬         ‫قلت لنفسي‪ ،‬أم قلت للنهر‪ ،‬أم قلت للشرفة‪ ..‬لا‬
                       ‫‪ -‬لو سمحت ورانا شغل‪..‬‬
                                                                                            ‫أدري‪..‬‬
   ‫كان صوت العامل الذي جاء بيتنا الذي كان لأنه‬        ‫كنا نبني حلمنا على هذا النهر‪ ..‬بعد رحيل والدي‬
 ‫يريد أن ينزع خشب الشرفة التي تطل على النهر‪..‬‬
  ‫فوجئت به وبالمالك الجديد الذي أنهى كل عبارات‬                                        ‫قالت والدتي‪:‬‬
‫الترحيب التي كانت بيننا‪ ،‬فجأة وجدته داخل المنزل‬      ‫ستتزوج نادية‪ ،‬وتعيشوا معي هنا‪ ..‬في هذا البيت‪،‬‬

                       ‫وينظر إلى بعيون حيادية‪..‬‬                                  ‫لا تكن مثل إخوتك‪.‬‬
                     ‫‪ -‬هكذا بدون سلام‪ ..‬تدخل‪.‬‬          ‫وكانت زيارتهم لنا قليلة‪ ،‬كانوا مشغولين بأعباء‬
‫‪ -‬لا سلام‪ ..‬ولا كلام‪ ..‬خللي الراجل يشوف شغله!‬       ‫الحياة‪ ،‬والعمل والأسرة‪ ،‬وإن لم يمنع الانشغال من‬

                                   ‫قلت‪ ..‬وقال‪..‬‬                         ‫الاجتماع في الأعياد السنوية‪.‬‬
  ‫قلت لنفسي كنت أستمتع بصفحة النهر من غرفة‬             ‫رحل والدي‪ ..‬ورحلت معه أحلام كثيرة‪ ..‬كثرت‬
  ‫صغيرة تطل من البيت الذي كان‪ ،‬ها أنذا أستطيع‬         ‫الديون‪ ،‬وجاء وقت الدفع‪ ..‬هل كان الوافد يخطط‬
 ‫أن أستمتع بالنهر كله دون نوافذ‪ ،‬سعدت بالفكرة‪،‬‬          ‫لذلك؟ أم أن الصدفة خدمته؟ كان والدي يشير‬
‫سيصبح النهر ملكي‪ ،‬وربما أجد نادية تمر بمحاذاة‬        ‫بإصبعه‪ ..‬إلى مكان كانت أمي تفهم إشارته وتقول‬
                                                         ‫إنه يعني لا نفرط في بيتنا‪ ..‬كانت زيارة الوافد‬
             ‫النهر‪ ،‬من هنا ستكون الرؤية أوضح‪.‬‬         ‫لنا تقلق والدي‪ ،‬وكان يغمض عينيه عندما يدخل‬
    ‫قلت لنفسي‪ .‬ومشيت بجوار النهر‪ ..‬لكني حين‬
     ‫اخترت أن أجلس وجدتني أعطي ظهري للنهر‬                                               ‫ليسأل عنه‪.‬‬
‫ووجهي لشرفة في منزل يطل على النهر‪ ..‬ولمَّا طالت‬           ‫كنت في نافذتي عاج ًزا عن فعل شيء‪ ،‬نظرت‬
     ‫جلستي ولم يأت صيادون هواة أو محترفون‪،‬‬            ‫للنهر‪ ،‬وبحثت عن صورة زعيم يملأ النهر وأقبله‬
 ‫أحسست بهجوم كبير من سباع النهر التي تخرج‬                 ‫كما فعل يوم تأميم القناة‪ ،‬وأصبح لدينا بدل‬
                                                          ‫المذياع تليفزيون يبث إلينا أخبار الغزاة الذين‬
                        ‫منه وتحاول أن تنهشني‪.‬‬        ‫احتلوا العراق‪ ،‬وكان الزعيم يفاخر بنجاح برنامج‬
                                                      ‫“خصخصة مصر”‪ ،‬وأنا أبحث عن صورة زعيم‬
                                                      ‫تملأ صفحة النهر وأقول له بصدق شديد وفخر‪:‬‬

                                                                                       ‫‪ -‬أنا أحبك‪..‬‬
   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76   77