Page 100 - merit agust 2022
P. 100

‫العـدد ‪44‬‬  ‫‪98‬‬

                                                       ‫أغسطس ‪٢٠٢2‬‬

  ‫وفي فترة سكنَّا م ًعا في حي الشيخ مقصود‪ ،‬الذي‬           ‫أخبرني أحد المسلحين الذين رافقوني في رحلتي‬
  ‫كان ُيعرف بأنه أحد أحياء الكرد في حلب‪ ،‬قال لي‬             ‫لمقابلة شيخه بأنهم سينتظرونني ريثما ينتهي‬
                                                            ‫اللقاء وسيعيدونني إلى المكان الذي قدمنا منه‪.‬‬
                                       ‫مماز ًحا‪:‬‬
   ‫‪ -‬بيتي في الشيخ مقصود وغالبية أصدقائي من‬              ‫طلب مني مرافقته‪ ،‬فتح الباب وأدخلني إلى الغرفة‬
‫الكرد‪ ،‬وبدأت أتعلم الكردية‪ ،‬بقي أن أغير كنيتي من‬        ‫المجاورة‪ .‬كان الشيخ واق ًفا يدير ظهره للباب لحظة‬
                                                         ‫دخولنا‪ ،‬وعندما بقيت في الغرفة معه وحي ًدا التفت‬
     ‫الحموي إلى الكردي وسأصبح كرد ًّيا خال ًصا‪.‬‬
 ‫أثناء مجازر النظام ضد الإخوان المسلمين في العام‬           ‫لي وهو يزيح الغطاء الأسود عن وجهه‪ ،‬وكانت‬
                                                       ‫المفاجأة التي أذهلتني‪ .‬رأيت نفسي وج ًها لوجه أمام‬
   ‫‪ 1982‬في مدينة حماة‪ ،‬تم قتل والديه‪ ،‬رغم أنهما‬        ‫محمود‪ ،‬صديقي وزميلي في أيام الدراسة في جامعة‬
 ‫لم يكونا على علاقة مباشرة مع ما حدث‪ ،‬كما كان‬
                                                         ‫حلب‪ .‬صدرت عني صرخة شبيهة بتلك الصرخة‬
                                          ‫يقول‪:‬‬               ‫المتحشرجة التي يطلقها المصدوم قبل الموت‪:‬‬
 ‫‪ -‬ذنبهم الوحيد أن أحد جيرانهم كان من الإخوان‬                                      ‫‪ -‬محمود‪ ،‬أهذا أنت؟‬
  ‫المسلمين‪ .‬كان قد تم في ذلك الوقت قصف المدينة‬
                                                         ‫غرقت في بحر من الحيرة‪ .‬كصديق قديم‪ ،‬فكرت‬
   ‫واجتياحها من كل الجهات من قبل قوات النظام‪،‬‬           ‫في احتضانه‪ ،‬لكنني أحسست أن بيني وبينه مئات‬
  ‫وانتشر القناصون في كل مكان للقضاء التام على‬           ‫من الأجساد مقطوعة الرأس التي دحرجها مسلحو‬
                                                         ‫أبو سياف على الأرض‪ .‬وقف بيني وبين محمود‪،‬‬
     ‫أي نشاط مخالف‪ .‬وحصدت الحملة العسكرية‬               ‫القصاب أبو سياف قاطع الرؤوس البشرية بسيفه‬
   ‫المميتة هذه أرواح الآلاف من سكان المدينة ومن‬
                                                            ‫الدامي‪ .‬لم تغير اللحية الطويلة ملامح محمود‬
                      ‫بينهم والد محمود ووالدته‪:‬‬          ‫الطالب الجامعي الذي كان يطلق عليه ‪-‬على سبيل‬
   ‫‪ -‬كانت البناية التي تخرج منها طلقة‪ ،‬تدمر على‬         ‫المزاح‪ -‬صفة «الشيوعي الإخواني»‪ .‬ما لفت نظري‬
   ‫رؤوس ساكنيها‪ .‬يبدو أن طلقة خرجت من بيت‬                ‫أنه احتفظ بكنيته الحموي حتى اليوم‪ .‬وإن لم أره‬
                                                       ‫بعيني لما كنت صدقت أذني بأن أبا سياف الحموي‬
       ‫جارنا‪ ،‬فهدموا البناية عن بكرة أبيها ودفنوا‬        ‫هو نفسه ذلك الصديق الهادئ‪ ،‬المرن واللطيف في‬
  ‫ساكنيها‪ ،‬ومنهم والداي‪ ،‬تحت الأنقاض‪ .‬الصدفة‬
   ‫وحدها كانت وراء عدم تواجدي في البيت في تلك‬                              ‫أيام الجامعة محمود الحموي‪.‬‬
 ‫اللحظات‪ ،‬وبالتالي نجاتي من موت مؤكد‪ .‬ومن هنا‬               ‫في تلك اللحظة فهمت سبب موافقة أبي سياف‬
  ‫جاء لقبه «الشيوعي الإخواني» حيث كان يسار ًّيا‬            ‫المعروف بشيخ المجاهدين على تلبية طلبي‪ ،‬دون‬
                                                             ‫غيري‪ ،‬لإجراء مقابلة معه‪ .‬وأعادني خيالي إلى‬
    ‫منفت ًحا‪ ،‬إنسانيًّا‪ ،‬ولم يكن منتميًا لأي تنظيم أو‬   ‫المراحل السابقة لما بعد ألفين وأحد عشر‪ .‬في السنة‬
 ‫حزب‪ ،‬أو أنني كنت أعرفه بهذه المواصفات‪ ،‬وكذلك‬           ‫التي سافرت فيها من قامشلو إلى حلب للدراسة في‬
                                                       ‫جامعتها‪ ،‬سافر محمود من مدينة حماة أي ًضا إليها‪،‬‬
   ‫لم تكن لعائلته علاقة مع الإخوان المسلمين‪ .‬كان‬         ‫للدراسة في نفس الكلية التي سجلت فيها‪ .‬تعرفت‬
  ‫يحب القراءة كثي ًرا وما لفت نظري حينها أنه كان‬             ‫عليه منذ اليوم الأول‪ ،‬إلا أن صداقتنا ازدادت‬
 ‫يعلق صورة كارل ماركس على حائط في غرفته‪ ،‬في‬             ‫متانة فيما بعد‪ ،‬وخاصة بعد تعرفنا م ًعا على بعض‬
‫حين كانت غالبية الكتب في مكتبته البيتية ذات طابع‬         ‫الأوساط السياسية اليسارية في الجامعة‪ .‬وسكننا‬
   ‫ديني‪ .‬أتذكر أن أحد الأصدقاء وقتها أطلعني على‬           ‫شقة الإيجار نفسها في حي «الشيخ مقصود» في‬
‫صورة له كان قد صوره على غفلة منه تحت صورة‬                 ‫أحد الأعوام الدراسية‪ .‬كان محمود شا ًّبا مندف ًعا‪،‬‬
                                                             ‫واسع الاطلاع‪ ،‬خفيف الدم ومنفت ًحا‪ .‬وينتمي‬
     ‫كارل ماركس المؤطرة وهو يقرأ كتاب «رياض‬                ‫إلى تلك الفئة من الناس التي ما إن تتعرف عليه‬
 ‫الصالحين» الذي يتضمن أحاديث النبي‪ .‬على عكس‬               ‫ليوم واحد‪ ،‬حتى تحس بأنك تعرفه منذ سنوات‪.‬‬

  ‫كل من كان يرى صورته تلك‪ ،‬كان محمود يعتبر‬
      ‫الأمر طبيعيًّا ج ًّدا‪ ،‬ويشرح موقفه هذا بكلمات‬
                                        ‫بسيطة‪:‬‬

   ‫‪ -‬إن قراءة أحاديث النبي‪ ،‬مثلها مثل قراءة كتب‬
    ‫ماركس‪ ،‬كلها تصب في مجرى واحد أوحد‪ ،‬هو‬
   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105