Page 101 - merit agust 2022
P. 101

‫‪99‬‬  ‫الإبداع الكردي‬

    ‫قصــة‬

 ‫أن الرجل الذي يسمى أبو سياف الحموي لا يزال‬                                      ‫البحث عن الحقيقة‪.‬‬
‫محتف ًظا ببقايا ذلك الشاب الطموح الذي كان يسمى‬          ‫ذكرتني صورة ابن لادن المعلقة في الغرفة التي‬

                                ‫يو ًما ما محمود‪.‬‬          ‫قابلته فيها بصورة ماركس التي كانت معلقة‬
‫في لحظات الوداع الحساسة هذه‪ ،‬لم أتمكن من فهم‬              ‫في غرفته في حلب في أيام الدراسة‪ .‬أحسست‬
‫ما يجول في خاطره‪ ،‬إلا أن الدموع تدافعت إلى عين َّي‬      ‫بأنه قد تم تبديل لحية بن لادن بلحية ماركس‪.‬‬
                                                        ‫انتشلتني نبرة صوته الجهوري من أعماق بئر‬
  ‫أي ًضا على حين غرة‪ ،‬وفكرت في احتضان صديقي‬             ‫الذكريات البعيدة مع محمود‪ ،‬ووضعتني وج ًها‬
      ‫القديم للحظات والغرق معه في البكاء بصوت‬        ‫لوجه مع رئيس أركان جيش المجاهدين الشيخ أبو‬
                                                     ‫سياف الحموي الذائع الصيت‪ .‬وانتقلت من أجواء‬
  ‫مرتفع‪ .‬وقبل أن تصل مشاعري المشتعلة تلك إلى‬          ‫خيالية لصديقين شابين إلى أجواء رجلين تجاوزا‬
‫حد الانفجار‪ ،‬حمل أبو سياف الحموي نفسه متأهبًا‬          ‫الخمسين‪ ،‬أحدهما صحافي والآخر قائد لفصائل‬
                                                     ‫مسلحة‪ ،‬والحديث سيتناول وطنًا جري ًحا تتقاسمه‬
   ‫للخروج‪ .‬وخرج ُم َراف ًقا بعشرات المسلحين الذين‬    ‫قوى وجهات وجماعات مسلحة‪ .‬استقبلني بصوته‬
‫كانوا ينتظرون قدومه إليهم بفارغ الصبر‪ .‬وبذهابه‬        ‫الجهوري وبفرح غامر‪ ،‬عبر عن سروره بمجيئي‬
                                                    ‫إليه‪ ،‬صافحني بمودة‪ ،‬إلا أنه أي ًضا لم يكن مستع ًّدا‬
         ‫سقط على الأرض بين يد َّي سؤال محزن‪:‬‬           ‫لاحتضاني‪ .‬جلسنا وج ًها لوجه‪ .‬لكي تتبدد آثار‬
              ‫‪ -‬يا الله‪ ،‬أين كنا‪ ..‬ووصلنا إلى أين؟‬       ‫المفاجأة التي أغرقتني في الذهول‪ ،‬بدأ بالسؤال‬
                                                      ‫عن أحوالي وأخباري الشخصية‪ .‬لم تتغير ملامح‬
    ‫لم يبح لي هو بما يشعر به‪ ،‬ولم يكن متا ًحا لي‬      ‫محمود كثي ًرا‪ ،‬سوى أن شعيرات بيضاء كانت قد‬
    ‫أن أبوح بما أشعر به‪ .‬لم يكن هناك وقت سوى‬          ‫انتشرت في لحيته وشعره‪ ،‬لكنها لم تستطع الحد‬
 ‫للموت والقتل‪ ،‬لم تكن هناك أية فرصة لكي يلتفت‬       ‫من ثقته واعتزازه بنفسه‪ .‬قبل أن نبدأ بحديثنا أمام‬
                                                      ‫الكاميرا‪ ،‬قال لي وكأن كل تلك الذكريات المشتركة‬
      ‫أحد منا إلى ما يجول في خاطره من أحاسيس‬
   ‫ومشاعر‪ ،‬في حين انحصرت كل أمنيات ورغبات‬                                 ‫كانت حاضرة بيننا وبقوة‪:‬‬
                                                      ‫‪ -‬قد يبدو لك وضعي غريبًا وتفاجأت بما رأيت‪،‬‬
      ‫أناس هذه البلاد المنكوبة في هدف وحيد وهو‬       ‫ولكن الأمر بالنسبة لي مختلف تما ًما‪ .‬أعتقد أنك لم‬
‫البقاء على قيد الحياة‪ .‬وقدم المسلحون الثلاثة الذين‬     ‫تنس بعد أنني أقاتل الآن قتلة أبي وأمي‪ ،‬اللذين‬

    ‫كانوا بانتظاري وسلكنا طريق العودة من حيث‬              ‫قتلا في بيتهما الآمن دون أن يرتكبا أي ذنب‪.‬‬
     ‫أتينا البارحة‪ .‬ووصلنا إلى النقطة التي كنت قد‬     ‫لم يفقد محمود بعد قوة الإقناع التي كان يتميز‬
   ‫انطلقت منها‪ ،‬فشكرتهم على مرافقتهم لي وعادوا‬         ‫بها‪ .‬كان شديد الثقة بإمكانياته المميزة في مجال‬
  ‫فخورين بإنجاز مهمتهم على أكمل وجه‪ .‬توجهت‬          ‫القيادة‪ ،‬مما أكسبته كاريزما لا تتوفر لدى الكثيرين‬
 ‫إلى مكان عملي‪ ،‬كان مدير التليفزيون بانتظاري مع‬
‫أسئلته التي كانت تخفي فضو ًل هائ ًل‪ ،‬يعكس مدى‬             ‫من القادة والزعماء‪ .‬لا أخفي إعجابي الشديد‬
  ‫حماسه لاستلام الحوار الذي أجريته للتو مع أبي‬      ‫بمحمود الذي كان يؤدي دوره كصديق قديم خلف‬

                                 ‫سياف الشهير‪:‬‬         ‫الكاميرا‪ ،‬يستمع إل َّي بكل حواسه‪ ،‬وكقائد لفصيل‬
  ‫‪ -‬الحمد لله على السلامة‪ ،‬طمننا عن الأحوال‪ ،‬كل‬           ‫مسلح يبدي رأيه بكل وضوح أمام الكاميرا‪،‬‬

                  ‫شيء تمام؟ كيف كانت المقابلة؟‬        ‫مجاو ًبا على كل الأسئلة التي طرحتها‪ ،‬وذلك دون‬
  ‫حياتي بعد هذه المقابلة لن تكون مثل قبلها‪ .‬كانت‬        ‫أن يتعارض هذان الدوران المتناقضان إلى أبعد‬

      ‫مقابلة غيرت لي حياتي‪ ،‬هكذا يمكنني وصف‬          ‫حد‪ .‬كان محمود بعد انتهاء المقابلة مستعج ًل‪ ،‬يود‬
 ‫اللقاء‪ .‬كانت الحرب قد قلبت حياة صديقي محمود‬           ‫المغادرة على الفور‪ .‬أذهلتني الدموع المتزاحمة في‬

   ‫رأ ًسا على عقب محولة إياه إلى أبي سياف‪ ،‬قاطع‬     ‫عينيه لدى قدوم لحظات الوداع‪ .‬كان ذلك دلي ًل على‬
  ‫الرؤوس البشرية‪ .‬كما أن مقابلتي مع محمود قد‬

     ‫غيرتني‪ ،‬محول ًة إياي إلى إنسان آخر‪ ،‬مختلف‪،‬‬
   ‫وما زلت حائ ًرا في إيجاد تسمية دقيقة لماهية هذا‬

                                   ‫الـ«مختلف»‪.‬‬
   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106