Page 249 - m
P. 249

‫‪247‬‬  ‫ثقافات وفنون‬

     ‫حوار‬

 ‫أعوام‪ ،‬وعشرة في العمارة‪ ،‬وفي‬                  ‫حاورته‪:‬‬                       ‫والدبابير‪ ،‬الفتى الذي لعب‬
   ‫بغداد أحد عشرة‪ ،‬وثمانية في‬                                               ‫بعظام الموتى في قلب الظلمة‬
   ‫روسيا‪ ،‬وفي ليبيا أحد عشر‪،‬‬             ‫سمر لاشين‬                           ‫كي يربي قلبه على الخوف‬
   ‫ومثلها في النرويج‪ .‬ما بينهم‬                                            ‫وعينيه على الظلام‪ ،‬لم تكن له‬
  ‫شهدت حياته سنوات خاوية‪،‬‬                   ‫فيما بعد‪ ،‬أصبحت تقلقه‬        ‫قدرة على إدراك ماهيته بمعزل‬
    ‫تخللتها سنوات قليلة كثيفة‬           ‫النهايات وصورتها؛ فأحرق‬           ‫عن الطبيعة فتركتها تحدد من‬
                        ‫الزمن‪.‬‬          ‫أيامه أو ًل بأول‪ ،‬ليعيد إنتاج‬     ‫يكون‪ ،‬ولأنه من عرق كهنوتي‬
    ‫يتنوع عالم يحيى الشيخ في‬          ‫نفسه من جديد فيما تبقى من‬
  ‫لوحاته وقصائده‪ ،‬ستجد مث ًل‬           ‫رماد‪ .‬هذا الفشل الرمادي أو‬              ‫كان مؤتمن على طقسين‬
     ‫في لوحاته أشجا ًرا عريضة‬          ‫الخلق المتكرر استهلكه طوال‬         ‫مقدسين‪ :‬أولهما مدعاة للفرح‬
                                        ‫حياته في استيعاب الأخرين‬           ‫يرتبط بالعرس فيكون دوره‬
 ‫المنكبين واسعة الصدر بيضاء‪،‬‬                                              ‫كسر جرة من الفخار ‪-‬بمثابة‬
    ‫وقم ًرا لونه أخضر‪ ،‬ويعيش‬                           ‫وفهم العالم‪.‬‬
      ‫رجال ضبابيون وقابلون‬                   ‫قضى وقته مبعث ًرا بين‬          ‫قربان‪ -‬على عتبة البيت عند‬
                                     ‫البلدان‪ ،‬والأصدقاء‪ ،‬والمتاحف‪،‬‬         ‫أقدام العريس قبل دخوله‪ ،‬إذ‬
  ‫للزوال يختفون وراء بعضهم‪،‬‬                ‫والمكتبات‪ .‬اشتغل غ َّسال‬
‫بجانب آخرين في لوحات أخرى‬                 ‫صحون في مطعم في مطار‬               ‫إنه يتحتم أن يكسرها طفل‬
‫عنيدين وصلبين بأجساد مبالغ‬            ‫بريمن في شمال ألمانيا‪ ،‬ومعل ًما‬       ‫طاهر‪ ،‬وثانيهما كان منذو ًرا‬
                                       ‫في الدمام‪ ،‬وصائ ًغا في المنامة‪،‬‬  ‫لطقس الذبائح الذي يجرى عادة‬
  ‫في ضخامتها يولون ظهورهم‬           ‫وطالب فن في ليوبليانا‪ ،‬وموظ ًفا‬        ‫على شاطئ النهر لذبح طيور‬
 ‫للمشاهد بغاية نبيلة‪ .‬إنه الفنان‬        ‫في وزارة حكومية في بغداد‪،‬‬          ‫للعوائل المؤمنة‪ ،‬يقف صام ًدا‬
‫الأكثر براعة الذي يملك أساليب‬             ‫ومصم ًما بار ًعا‪ ،‬وشيوعيًّا‬      ‫يشهد أن الذبح يجرى حسب‬
‫خاصة تنجح دائ ًما في استدارج‬              ‫يحسب له ألف حساب‪ ،‬إلا‬             ‫السنن المندائية ويصيح «أنا‬
‫الرؤيا والعودة إلى الرسم في كل‬        ‫أنه ترك الطائفة والحزب وكل‬          ‫سهدخ» يعني‪ :‬أنا شاهد‪ .‬كان‬
 ‫مرة يحدث فيها انقطاع‪ ،‬وذلك‬              ‫الحياة السياسية في العراق‬       ‫لهذه النشأة التي تمجد عناصر‬
  ‫عبر طقوس ‪-‬قد تبدو ساذجة‬           ‫بإرادته‪ ،‬وعاش طائ ًرا ح ًّرا ينتقل‬     ‫الطبيعة الخام دو ًرا كبي ًرا في‬
 ‫لكنها ف َّعالة‪ -‬كأن يجمع كل ما‬     ‫من بلد إلى أخر‪ .‬لقد خرج الشيخ‬       ‫صياغة مفرداته للكتابة والحياة‬
‫يعثر عليه في طريقه من أخشاب‬           ‫من أرحام أربعة ولم يعد إليها‬         ‫واختيار أدواته وموضوعاته‬
‫يابسة وأحجار وجلود وصفائح‬             ‫مرة أخرى‪( :‬رحم الأم‪ ،‬الدين‪،‬‬
                                      ‫الوطن‪ ،‬العقيدة)‪ ،‬كان الخروج‬                              ‫للرسم‪.‬‬
     ‫صدئة حتى تتضاعف تلك‬                ‫شا ًّقا وطوي ًل‪ ،‬ولم ينته بعد‪.‬‬         ‫لينتقل الشيخ من مرحلة‬
 ‫الأشياء في مرسمه وتسد عليه‬          ‫خرج ولم يعد‪ ،‬كان هذا برزخه‬           ‫الطفولة البرية إلى بغداد حيث‬
                                         ‫الذي صنعه للتطهر مما مر‬          ‫في المدينة لا نخيل يتسلقه ولا‬
                       ‫الطريق‪.‬‬        ‫به‪ ،‬افترض أنه ليس من سكنة‬              ‫بلابل يربيها‪ ،‬تتلمذ على يد‬
‫بعد كتابه الأول الذي صدر عام‬        ‫الجحيم إلا أنه ليس طاه ًرا كفاية‬       ‫رواد الفن التشكيلي في بغداد‬
‫‪ 2012‬أنجز ونشر عشرة كتب‪:‬‬                      ‫ليرتقي إلى الفردوس‪.‬‬            ‫في أكاديمية الفنون الجميلة‬
                                     ‫لو نظرنا إلى حياته لوجدنا أنها‬         ‫التي تخرج منها عام ‪،1966‬‬
  ‫في القصة القصيرة‪ ،‬والرواية‪،‬‬         ‫قد ُق ِّطعت بالتساوي إلى أعمار‬      ‫وأكمل الماجستير في الجرافيك‬
‫والشعر‪ ،‬والمسرح‪ ،‬والمخطوطات‬         ‫متساوية‪ :‬في قلعة صالح ثمانية‬           ‫في يوغسلافيا عام ‪ ،1970‬ثم‬
                                                                            ‫حصل على درجة الدكتوراة‬
  ‫اليدوية‪ ،‬في دور نشر مختلفة‪،‬‬                                             ‫في علوم الفن من معهد بحوث‬
    ‫ولا يزال معتك ًفا وعاك ًفا على‬                                          ‫نظريات الفن في موسكو في‬
    ‫الكتابة والرسم حتى اليوم‪.‬‬                                                ‫وقت لاحق من عام ‪.1984‬‬
        ‫عالم يحيى الشيخ الفني‬
      ‫والكتابي ساحر ومختلف‬
    ‫ومميز؛ دعوني أعرفكم عليه‬
   244   245   246   247   248   249   250   251   252   253   254