Page 250 - m
P. 250
العـدد 57 248
سبتمبر ٢٠٢3 أكثر من خلال الحوار الآتي:
مهيمنًا ،كان الزمن خفيًّا ذا رجل واحد ،ثم استعمرت المكان لنبدأ من الطفول ِة ،تحدي ًدا من
طبيعة برمائيَّة ،يسعى بين النَّهر طائفة عريقة بثلاثة وعشرين قرية «اللطلاطة» جنوب شرق
منز ًل ،عاشوا وتزوجوا ومات
والبرية .لم يكن النَّهر ميا ًها منهم من مات وانشأوا مقبرة، العراق ،هل كانت النشأة
وأسما ًكا وزوارق عابر ًة تحمل وطن آخر للأموات بجوارهم.. ذات الطبيعة البر َّية ما بين
الشعير والقمح وقصب السكر، النَّهر والمقبرة السبب في أن
إنما طقوس عريقة ولغة لاهوتية اختفى المكان وأهله في منتصف تتقاسم الحياة والموت بشك ٍل
أسطور َّية عسيرة الفهم ،كن ُت القرن العشرين ،بعد مئة عام.. خ َّلق وبك ٍر ،وبنفس الحماس
أسمعها مثلما أسمع شخير الماء والتساوي في أعمال ِك دون
فمثلما ُبنيت بيوتها من طين
اللائذ بالجرف ..فماذا تبقى ضفاف دجلة ،اختفت وعادت خو ٍف؟
من صبي كان يلعب بين القبور إلى طين النهر .استعاد النهر
أمانته في فيضا ٍن جار ٍف محا إذن أن ِت تطرحين فكرة البدء
لي ًل ،يربي قلبه على الخوف، ك َّل أث ٍر ،كل قب ٍر سوى قبر واحد من ساعة الخلق! من ساعة
ويدرب عينيه على الظلام؟ لم ما زال راس ًخا على ضفة النهر تك ُّون ماهية خام رعوية نشأت
أكن وحدي ،فقد كان الأموات كما النهر راسخ حتى اليوم :قبر في البرزخ بين الحياة والموت،
يلعبون معي ،يكشفون ما تخفيه جدي الذي ُسميت على اسمه.. المكان الأكثر موضوعيَّة في
الحياة ،ويخفون ما تكشفه. كيف تم ذلك؟ كانوا أربعة أخوة الوجود ،والأكثر مأساو َّية فيه.
مؤسسين غادروا كلهم ،وف َّضل كنت هناك شيئًا من الأشياء،
لم يعطش الموتى ،فما بين ليس أساسيًّا ،بل ناق ًصا يبحث
المقبرة والنهر مئة خطوة لا غير، هو البقاء فيها لوحده! ماذا عن كماله ،فكنت أعود من البر َّية
كنت أقطعها كل يوم أتمرن على ينتظر غير عودة أهلها! والله لا والبساتين ومعي ما يكملني:
أعشاش مليئة بالبيوض المرقطة،
الحياة ..ولولا تواصلي معهم، يحدث هذا إلا في الأساطير. ريش زاهي الألوان ،أزهار
لما عشت حتى اليوم! ظهروا في لم يكن الزمن مفهو ًما ولا بر َّية ذات أشواك قاسية ،وثمار
الثعلب ،وأجملها وأقربها إلى
حياتي كونهم الحقيقة الأولى محسو ًسا ..وبقدر ما كان المكان قلبي كانت القنافذ الخانسة في
المقدسة التي تمظهرت في ميتات مملكتها ذات الأشواك البراقة
مخطوطة التمائم الوثنية المصقولة الوديعة.
«تبدأ المعرفة الطبيعية مع
التجربة وتقيم فيها ولا
تبرحها» ..تجربتي الطبيعية
كانت مصدر إدراكي الحسي
الخام للعالم؛ ولكننا ونحن
نفرش ذاكرتنا بعد سنين ،نجد
تجربة أخرى ،بمعنى آخر ما
تبقى منها في الإدراك الباطني.
قرية «اللطلاطة» موضع زماني
أسطوري ،تشكل في منتصف
القرن التاسع عشر بإرادة