Page 258 - m
P. 258
العـدد 57 256
سبتمبر ٢٠٢3
خلقهم كما ساهموا في تش ُّكلي.. كلها كانت معطيات مجانية الانفصام ..هو المسؤول عني
نعم ،خلَّف ْت الصحراء والبحر أحرزت فيها على ما يمكنني وعن أفعالي ،مسؤول عن إنقاذي
والثلج القطبي والغابات حمله وتركت ما عداه ،والذي
الخضراء قي ًما ومعايير في مرات عدة ،وتوريطي وزجي
يبدو الآن أكثر أهمية مما في معارك حقيقية ذات قيمة
وعيي ،فهي إلى جانب طبيعتها، ظننت ..ولكن العودة إليه باتت وأخرى جانبية سخيفة ..إذا
ثقافة وبشر وعلاقات ،جميعها توخينا البقاء في صلب السؤال،
شكلت اقتصا ًدا ثقافيًّا استثمرته غير ممكنة ..وليس من أسف فهو :من خاض تلك التجارب،
مجاني أمام حقيقة مضيئة أنى واشتغل غ َّسال صحون في
في أعمالي الأدبية والفنية. كنت فيها بكل كينونتي ،وفعلت
لا أعتقد بوجود رسام أو كاتب مطعم في مطار بريمن في
يأتي بأفكار ورؤى من خارج ما فعلته بكامل و ٍع وإدراك. شمال ألمانيا ،ومعل ًما في الدمام،
الكون ،حتى أشدهم تط ُّر ًفا في حين كتبت «سيرة الرماد» وصائ ًغا في المنامة ،وطالب فن
التجريد ،فكلنا نحظى ونخضع، واجهتني معضلة أن أعيد في ليوبليانا ،وموظ ًفا في وزارة
بهذا القدر أو ذاك ،لأفكار ورؤى تشكيل معرفتي ،لأضع حياتي فاشية في بغداد ،وصار مص ِّم ًما،
في نصابها الوجودي البحت
مما يحيطنا. أمام الكتابة ،وفي الحقيقة أن وأصبح شيوعيًا ،هو الذي
المعضلة هي كيف يعيش المرء، أضع الكتابة في مواجهة الذات. ترك العراق والطائفة والحزب
وأية لحظات تستحق الالتفات اكتشفت بعد انجاز الكتاب أن بإرادته ،وهو الذي رسم كل هذا
حياتي الفعلية كانت خارج
لها وتجشم عناء الرسم صفحاته ،حياتي التي أحبها وكتب كل هذا.
والكتابة؟ وكيف يرسم ويكتب؟ والتي هي سر وجودي حتى طيلة السنوات حتى اليوم،
اليوم ،مبعثرة في أماكن بعيدة لم انتظر منه يلتفت لي ويرحمني..
السلام الذي ع َّم حياتي في يعد لها وجود ،مع ناس اختفت ولكني لا أخفى عليك س ًّرا ،لا
العقدين الأخيرين في النرويج، أطيافهم ولا يمكنني إعادة أعرف ماذا سأفعل من دونه
وفر لي فرصة العمل بلا شروط والاستمتاع بما يفعله في حياتي،
ولا منغصات عيش ،تحررت من وليم غاس لقد أدمنت عليه ..كثي ًرا ما
الحاجة فضاعفت هذه الحالة من تغاضيت عنه ونسيته تما ًما،
قدرتي على العطاء بلا حساب، لكنه يعود ويذكرني بنفسي.
على ما يبدو من حصيلة السنين،
واختيار ما يناسبني ورفض أن التجربة الحياتية كفيلة
ما عداه ..الكتابة والرسم من بترتيب وضع يجيز للمرء
الادعاء بخصوصيته ،باكتشاف
الفضائل العليا في الحياة، ماهيته الدفينة بمعزل عن
وبطولة الإنسان أن يكون املاءات الخارج والعادة اليومية،
وإحراز خبرة وتدريب الخيال،
فاض ًل. وبأضعف الإيمان ،اكتناز ذاكرة
تنفع يو ًما لاجترار الوقت..
في السياق نفسه :وأنت تنظر اختلطت لد َّي متناقضات وما
للعراق من موقعك في أوروبا كان ممكنًا لي الانحياز لواحدة
منها ،من صحراء نجد إلى ثلوج
وتراقب ما يحدث فيه ،وما سيبيريا ،من شمال أفريقيا
يحدث في الوطن العربي عمو ًما.. السوداء إلى الغابات القطبية،
كيف ترى الوضع على الأرض
سياسيًّا ،واجتماعيًّا ،وثقافيًّا،
وحضار ًّيا؟ إلى أين يمضي
العراق؟ وإلى أين تمضي دولنا
الناطقة بالعربية؟