Page 76 - merit 50
P. 76

‫العـدد ‪50‬‬   ‫‪74‬‬

                                                       ‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫صالح أمهاوش‬

‫(المغرب)‬

‫المفتاح‬

       ‫ك َّرة أخرى بروية‪ ،‬أجامله علَّه يقبل مجاملتي‬        ‫في ظلمة الليل الحالكة‪ ،‬حيث لا صوت يعلو فوق‬
     ‫ويجعلني أخلد إلى النوم بسلام‪ ،‬يبدو أن الأمر‬          ‫صوت الصمت الرهيب‪ ،‬تبدو الشوارع خالية من‬
      ‫صار ِج ًّدا‪ ،‬فدخول المفتاح في الثقب كان بداية‬        ‫كل ن َف ٍس حي‪ ،‬وأنا أجول بينها عائ ًدا إلى منزلي‪،‬‬
  ‫طبيعية لمساره المعهود‪ ،‬صر ُت أتخيلُه الآن تباشير‬         ‫إلى قبوي الصغير الذي لا أرتاح إلا فيه بعد يوم‬
 ‫خلاص تلوح في الأفق‪ ،‬إذ لو كان الغلط في اختياره‬           ‫مثق ٍل برتابة هذه الحياة‪ ،‬يتملكني غضب شديد لا‬
    ‫لأبى الانصياع مذ لامس سطح القفل النحاسي‪،‬‬            ‫أدري ما علته‪ ،‬حتمية عيش يوم كامل وسط الزحام‬
   ‫لكن تم ُّنعه عن الدوران وعن فتح الباب بدا غريبًا‬
      ‫لي‪ ،‬أخرجته من الثقب ففكر ُت بطريقة الأجداد‬            ‫والضغوط تلازمني وتلتصق بي أيما التصاق‪،‬‬
      ‫دهنه بالزيت عربو ًنا للمحبة التي يكنها للقفل‪،‬‬    ‫غضب جاء نتيجة ركام من العلاقات المبتذلة والمليئة‬
  ‫هكذا علمتني الحكايات‪ ،‬هذا الدهن سيسهل عملية‬
‫الدوران‪ ،‬لكن أنى لي بالزيت في هذا الليل البهيم‪ ،‬على‬        ‫بالنفاق والتصنع‪ .‬ما إن بدا بيتي من بعيد حتى‬
   ‫حين غرة أفرزت لعابي ودلقته على أسنان المفتاح‬          ‫سارع ُت الخطى وسارع ْت معه أصابعي تبحث عن‬
  ‫وصرت أمسده كالأبله‪ ،‬ثم أعد ُت المحاولة بإصرار‬          ‫المفاتيح خلا ًصا لها من برد الجو ممزو ًجا ببرودة‬
 ‫حماسي هذه المرة‪ ،‬دخل مجد ًدا حتى استقر‪ ،‬لاحت‬
    ‫من شفتي ابتسامة تشي بنص ٍر بطولي في وسط‬                  ‫التيه‪ ،‬فالبيت ملجئي الآمن والدائم من سطوة‬
  ‫هذا الزخم من الخيبات‪ ،‬أدرته نحو اليمين مخطئًا‪،‬‬             ‫الحياة‪ .‬أخرجت مفاتيحي باضطراب فأدخلت‬
  ‫قبل أن أديره نحو اليسار بثقة بالغة‪ ،‬تحرك قلي ًل‬        ‫الخاص بالمنزل في ثقب القفل‪ ،‬ترتجف يداي بشدة‬
  ‫ثم انكبس لا يريد أن يتزحزح قيد أنملة‪ ،‬أحسست‬               ‫تف َّصد العرق من ثناياها كأني مصاب بالحمى‪،‬‬
‫بفر ٍط من الغضب هذه المرة‪ ،‬فشرعت أديره بعن ٍف لا‬               ‫تغلبت على نفسي بعدما جاريتها لمدة ليست‬
 ‫أبالي معها بالضجيج الذي سأخلفه حولي‪ ،‬لم أشعر‬              ‫بالطويلة‪ ،‬عاندني الثقب في البداية بعض الشيء‬
‫حينها إلا بقبضتي تخبط الباب بقوة‪ ،‬خرج ْت خلالها‬        ‫وهو يمعن في تعذيبي أكثر‪ ،‬دخل المفتاح أخي ًرا حتى‬
  ‫دمعة يتيمة من عينِ َي اليمنى تمتح ضع ًفا لمصيري‬       ‫استقر في القاع بهدوء‪ ،‬أدر ُته ببط ٍء ُيهيَّأ للرائي من‬
 ‫هذه الليلة‪ ،‬هل سأبيت في الشارع كالشريد؟ غرق ُت‬         ‫بعيد أنني أريد مفاجأة ضيف بالداخل‪ ،‬لكن المفتاح‬
  ‫في خيالي ووجهي مس َن ٌد إلى الباب الحديدي اللعين‬     ‫لم ي ُدر! ظننته يشاكسني كعادة المفاتيح ُتشعر الآخر‬
     ‫بعيني المغمضتين‪ ،‬فتح ُتهما قلي ًل‪ ،‬انبع َث ضو ٌء‬      ‫بسطوتها وسلطتها في كشف أغوار البيوت‪ ،‬هي‬
  ‫من الداخل‪ ،‬استفق ُت من هول الصدمة ا ّمحت فيها‬           ‫التي يحق لها أن تتسلطن في حضرة كل الأشياء‬
   ‫دمعتي لا أدري أين اختفت‪ ،‬تتسارع الأحداث في‬          ‫المحيطة بنا‪ ،‬طالت المشاكسة أكثر مما ينبغي بصورة‬
‫ذهني أحلل ما يحدث‪ ،‬أريد أن أفكر بسرعة لأفهم ما‬               ‫أزعجتني ج ًّدا‪ ،‬بدأ ُت أقاتل المفتاح وأرغمه على‬
‫يجري‪ ،‬قدمان تحثان الخطى نحوي‪ ،‬يرتفع الصوت‬                ‫الدوران‪ ،‬وهو لا يبالي‪ ،‬يمعن في أنفته‪ ،‬أديره يمنة‬
 ‫شيئًا فشيئًا‪ ،‬رجع ُت بخفة بضع خطوات إلى الوراء‬
                                                                                     ‫ويسرة بلا جدوى!‬
                                                          ‫الظلام اشتد حلكة‪ ،‬الجيران نيا ٌم لا أريد أن يفيق‬
                                                           ‫أحدهم على صداع الباب كأنني لص غريب داهم‬
                                                        ‫الحي‪ ،‬أتصنع هدو ًءا لم أعهده يو ًما ف َّي‪ ،‬أدير المفتاح‬
   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81