Page 102 - merit 36- dec 2021
P. 102

‫العـدد ‪36‬‬   ‫‪100‬‬

                                                       ‫ديسمبر ‪٢٠٢1‬‬

    ‫سعادته‪ ،‬كان الطبيعي أن تترى الأحزان وتلون‬                                ‫ها هي ذي الألوهية الحقة»‬
    ‫المشاهد كلها حتى في أوج عنفوانها‪ ،‬وكأنها هي‬           ‫ونصعد عندها لحلقة أخرى من حلقات الاندماج‪،‬‬
     ‫الحقيقة وما سواها محض ضلالات أو أمنيات‬               ‫عندما تتماهى الألوهية مع لحظة التوحد الحسي‬
                                                         ‫الشفيف حينًا والعنيف حينًا‪ ،‬فتشرق الألوهة عند‬
               ‫مكتوب على استمرارها الحي الفناء‪.‬‬            ‫لحظة انتفاء الأين والمتى والكيف‪ ،‬فقط لحظة لا‬
     ‫تنتمي لغة هذا الديوان لبلاغة تزاوج بين ألفاظ‬      ‫تتمكن اللغة من الإحاطة بها‪ ،‬يتوحد فيها الكائن مع‬

         ‫وجمل مألوفة في التراث وأخرى أقرب لنا‬                                                 ‫الكينونة‪:‬‬
      ‫وللمعاصرة‪ ..‬حيث لا تلقي الشاعرة با ًل لأي‬                               ‫«يمتطيني ر ٌّب فأكون ر َّبته‬
       ‫وصفة جاهزة تحدد للمبدع كتالو ًجا لا يحيد‬                        ‫والفرائ ُس ترت ُع لن أقول لها تعالى‬
    ‫عنه‪ ،‬وكأن ذلك هو صك العبور إلى الانتماء لهذا‬       ‫لكنني آتي وآتي حتى ترفل قطع السماوات في هيئة‬
  ‫المعسكر أو ذاك‪ ..‬وإن كانت لغة الشعر في ديواننا‬
 ‫هذا قد تتطرف في أحيا ٍن لدرجة بناء جمل لا يمكن‬                                                  ‫لؤلؤ»‬
 ‫صياغتها إلا تحت وع ٍي قديم يؤمن بالمجاز وألعابه‬       ‫وكأن الربوبية الحقة لا تظهر إلا عند التوحد الكامل‬
 ‫كمطلق‪ ،‬وباللغة وغريبها باعتبارهما غاية الإدهاش‬
  ‫ومناطه ولعبته الأثيرة والواجبة‪ ،‬وقد أدى هذا إلى‬          ‫وكنتيجة مباشرة له‪ ..‬لك َّن هذا الواقع السحري‪،‬‬
 ‫جر النص أحيا ًنا إلى كسر سياقه الجمالي والدلوف‬            ‫هذا الكون الجديد الذي صنعته الأنثى وصاغته‬
    ‫بالتالي إلى حارات من الغموض تشوش وتؤذي‬              ‫من النور والنار‪ ،‬من الجائز أن يقع تحت نير نفس‬
      ‫ترابط النص وخيطه العام‪ ،‬حيث تعلو الصور‬
    ‫الشعرية الجافة والمصنوعة على الشعر الخالص‬                ‫القوانين الفانية التي حاول استبدالها بأخرى‬
‫الذي من لحم ودم‪ ،‬فتكون التجربة الشعرية المن َتجة‬           ‫خالدة لا تشيخ أب ًدا‪ ،‬ربما بفعل الملل أو الاعتياد‬
‫في حالة أقرب للتعالي على حال الشعر‪ ،‬مما قد يصنع‬            ‫على السعادة المجنونة‪ ،‬والاحتفاظ بمذاقها نفسه‬
‫اغترا ًبا وتباع ًدا وانفصا ًل‪ ،‬حيث تكتسب هذه الجملة‬        ‫في الحلق والروح لفترة طويلة‪ ،‬وربما من غرور‬
 ‫الشعرية طاقة جمالية تكون في حد ذاتها موفقة إذا‬          ‫السعادة كقيمة نالت مأربها من الوجود فتراجعت‬
   ‫اقتطعناها من سياقها الجمالي‪ ،‬لكنها ‪-‬وهي جزء‬
       ‫منه‪ -‬لا تكون إلا عبئًا على التجربة الشعرية‪.‬‬             ‫قدراتها على مقامة الضد‪ ،‬وهكذا لا يتبق إلا‬
 ‫لقد نجحت الشاعرة ديمة محمود في ديوانها الثالث‬          ‫استحضار الموت‪ ،‬الذي هو قاصم الأبدية وكاشف‬
‫«أصابع مقضومة في حقيبة» في الانطلاق أبعد كثي ًرا‬
  ‫من تجربتيها السابقتين‪ ،‬وامتلاك لغة ورؤية أكثر‬              ‫كونها نسبية وليست مطلقة‪ ،‬وما توهج أبدية‬
  ‫طمو ًحا ونض ًجا‪ ،‬حيث تمكنت من الوصول لإنتاج‬          ‫اللحظات إلا الأمنية الكبرى التي ترفل في ماء التوهم‬
    ‫تجربة كاملة ومترابطة عبر الحالة الكلية للعمل‪،‬‬
    ‫حيث تنافح عن الخيال باعتباره يقينًا مكتم ًل في‬                                            ‫الرقراق‪:‬‬
‫مقابل الواقع الذي غالبًا ما يعتوره النقص والجفاف‬                                ‫«كالمو ِت تما ًما هو الفرح‬
 ‫والتناقضات‪ ،‬وكأنها تب ِّدل الهاوية التي تودينا إليها‬                          ‫وحيد وعار ويتيم‪ ،‬للغاية‬
 ‫حياتنا المادية‪ ،‬وترفع بصيرتها برافعة قوية وهائلة‬
   ‫ومدهشة من الخيال‪ ..‬هذا الخيال مر ٌن لدرجة أن‬                                           ‫قناص هارب‬
‫يتحول مر ًة لك ْو ٍن كامل ومر ًة أخرى يمكن اختصاره‬                                      ‫ساعاتي غشيم‬
      ‫في حبيب‪ ،‬من الرائع اكتناز الماضي والحاضر‬                                           ‫نجار بلا باب»‬
   ‫والحياة وتفاصيلها في أعطافه ولفتاته السحرية‪..‬‬       ‫بعد ذلك لا مناص من مراجعة الذات ومساءلة المرايا‬
    ‫يبقى الخيال إذن بسا ًطا سحر ًّيا يعطي الإنسان‬         ‫وأشباحها‪ ،‬عن سبب تسرب الأحزان من كو ٍة لم‬
  ‫قدرا ٍت ظل طول تاريخه يحلم بها‪ ،‬ويبقى في نفس‬           ‫تكن ُم َع َّدة إلا للفرح وجنوح الأحلام حتى الثمالة‪:‬‬
   ‫الآن‪ ،‬هروبًا مشرو ًعا من واقعٍ من العسير تحمله‬                      ‫«هل كانت ذاكرتها أكبر من العالم‬
                                                                      ‫فخزنت أحزانها أكثر مما ينبغي؟»‪.‬‬
                                                       ‫إن الذاكرة ليست فقط وعا ًء يجمع حوادثنا البسيطة‬
                                                        ‫الفانية‪ ،‬وإنما كرة أرضية كاملة‪ ،‬حيث ذاكرة الآلهة‬
                                                         ‫تواخلتولاقفعحواتل ًمتا‪،‬وههماي اتل‪،‬حاهويياُةلأللمملكصالئررقوالص ٍةحيموانتقل ٍب‬
                                                        ‫وكل نقطة من بح ٍر‪ ..‬وبما أن الأحزان قيمة لصيقة‬
                                                       ‫بصيرورة الإنسان ومفككة دائمة ومستمرة لأوهام‬
   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106   107