Page 118 - merit 36- dec 2021
P. 118

‫العـدد ‪36‬‬                          ‫‪116‬‬

                                     ‫ديسمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫بين شيئين باستمرار لا مساحة‬              ‫الموجة الحضارية الأوروبية‬           ‫الجرمانية» الكامنة التي تقف‬
     ‫للمنتصف فيه‪ ،‬إما الانفلات‬        ‫الثالثة الحالية رغم حضور آثار‬      ‫خلف الموجة الحضارية الأوربية‬
     ‫المطلق للظاهرة البشرية مع‬         ‫الموجتين الثانية والأولى‪ ،‬ولكن‬     ‫الحالية بأكملها‪ ،‬هي التي منحت‬
     ‫الليبرالية المادية‪ ،‬أو التنميط‬    ‫كتراكمات فرعية في «مستودع‬
         ‫المطلق لها مع الشيوعية‬      ‫الهوية» بدأت تتململ من الهيمنة‬         ‫النموذج الأوربي شكله المميز‬
                      ‫الليبرالية‪.‬‬      ‫الجرمانية‪ ،‬لكن لم تستطع بعد‬         ‫في «تطرفها» الديني قرب نهاية‬
                                     ‫أن تقف في وجه منتجات الثقافة‬         ‫العصور الوسطى وقبلها بقليل‪،‬‬
  ‫والملاحظ أي ًضا أنه بعد انتصار‬                                         ‫وبدا الأمر «هكذا‪ ،‬فنتيجة لتزاوج‬
 ‫«الليبرالية المادية» وتفكك الكيان‬      ‫الجرمانية الرئيسية في عصر‬           ‫المسيحية والجرمان في الغرب‬
  ‫السياسي لـ»المادية الشيوعية»‬         ‫النهضة والحداثة‪ ،‬التي تحظي‬
                                       ‫بـ»تقييم اتفاقي عالمي» مرتفع‪،‬‬          ‫اللاتيني‪ ،‬نجح الأخيرون في‬
    ‫مع الاتحاد السوفييتي قرب‬         ‫والتي ارتبطت بالمادية والعلمانية‬       ‫نحت تعبير (الحرب المقدسة)‪،‬‬
      ‫نهاية القرن الماضي‪ ،‬بدأت‬          ‫كـ»اختيار حدي» في مواجهة‬
                                                                               ‫بعكس ما حدث في الشرق‬
  ‫تظهر الآن بعض المحاولات من‬             ‫«الاختيار الحدي» الجرماني‬             ‫الأوروبي البيزنطي‪ .‬إذ إن‬
  ‫«الذهنية الجرمانية» في روسيا‬              ‫السابق في نهاية العصور‬       ‫القديس باسل الكبادوكي ‪-‬أعظم‬
 ‫المهزومة لإعادة إنتاج «الثنائيات‬          ‫الوسطى بالتشدد في قبول‬         ‫مشرعي الكنيسة البيزنطية‪ -‬قد‬
                                                                         ‫اعتبر أن الشهيد المسيحي هو من‬
      ‫الحدية» مجد ًدا‪ ،‬في أشكال‬       ‫الديانة المسيحية ورفع كهنوتها‬        ‫يموت متسل ًحا بالإيمان‪ ،‬وليس‬
     ‫جديدة فيما عرف بمشروع‬                 ‫وممثليه من البشر للدرجة‬          ‫الذي يقتل في الحرب بواسطة‬
  ‫الأوراسية الجديدة وصعودها‬                                               ‫أعداء المسيحية»(‪ ،)5‬حيث تطرفت‬
 ‫بـ»ثنائية حدية» جديدة تستلهم‬        ‫المربكة والمقيدة التي تحدث عنها‬         ‫«الذهنية الجرمانية» في قبول‬
‫استقطا ًبا بين «المسيحية الشرقية‬                            ‫التاريخ‪.‬‬
      ‫الأرثوذكسية» و»المسيحية‬                                                           ‫الديانة المسيحية‪.‬‬
                                           ‫وتحول «الاختيار الحدي»‬         ‫ثم أنتجت «الذهنية الجرمانية»‬
        ‫الغربية البروتستانتية»‪.‬‬           ‫الجرماني الجديد في الموجة‬        ‫ذاتها «تطر ًفا مضا ًّدا» في رفض‬
    ‫وكذلك تقديم الصين لنفسها‬            ‫الحضارية الثالثة نحو المادية‬
 ‫كممثل جديد لـ»الثنائية الحدية»‬                                              ‫الديانة المسيحية نفسها قرب‬
    ‫القديمة بين المادية الليبرالية‬          ‫والعلمانية‪ ،‬نتيجة للتشدد‬       ‫بداية الموجة الحضارية الحالية‬
                                          ‫الكهنوتي والغيبي للكنيسة‬       ‫الثالثة‪ ،‬حينما تبنت المادية البحتة‬
       ‫الغربية والمادية الماركسية‬       ‫ورفضها بعض منتجات العلم‬           ‫سواء في شكلها الليبرالي المنفلت‬
  ‫الشرقية‪ ،‬فرغم صعود الصين‬                ‫ونتائجه؛ مما جعل «الذهنية‬
                                           ‫الجرمانية» تتطرف مجد ًدا‬           ‫أو الماركسي التنميطي‪ ،‬فيما‬
     ‫الحضاري والتقني والعلمي‬          ‫وتميل للمادية البحتة والعلمانية‬     ‫يمكن أن نسميه سمة «الثنائيات‬
     ‫إلا أنها لا تزال تختار إعادة‬
 ‫إنتاج تمثلات المسألة الأوروبية‬              ‫ورفعتهما لدور التقديس‬            ‫الحدية» ‪-‬والتطرف البدائي‬
 ‫الثقافية القديمة‪ ،‬كفلسفة وثقافة‬         ‫كـ»اختيار حدي»‪ ،‬ولكن على‬            ‫الشديد‪ -‬التي ستصبح أبرز‬
  ‫عليا‪ ،‬بانتصارها للخيار الحدي‬       ‫المستوى التطبيقي لاختيار المادية‬     ‫سمات «الذهنية الجرمانية‪ ،‬التي‬
‫القديم لـ»المادية الشيوعية» رغم‬         ‫ظهرت «ثنائية حدية» متطرفة‬          ‫ستميل دو ًما إلى تمثيل وتقديم‬
   ‫أنها على أرض الواقع تمارس‬            ‫جديدة‪ ،‬إما «المادية الليبرالية»‬
  ‫أشكا ًل اقتصادية واجتماعية لا‬         ‫المنفلتة بتطبيقاتها الاقتصادية‬         ‫كافة الظواهر الإنسانية في‬
   ‫تنتمى أب ًدا للأشكال التقليدية‬                                         ‫صراع «ثنائي حدي» متطرف لا‬
   ‫المرتبطة بـ»المادية الشيوعية»‪.‬‬            ‫والاجتماعية‪ ،‬أو «المادية‬
 ‫من هنا كنت في دراسة سابقة(‪)6‬‬         ‫الشيوعية» التنميطية بتطبيقاتها‬              ‫يقبل القسمة على اثنين‪.‬‬
   ‫أسميت الحالة التي وصل لها‬                                                ‫وبالتالي ستفرض هذه السمة‬
      ‫النموذج الغربي مع ترامب‬               ‫الاقتصادية والاجتماعية‪.‬‬         ‫الثقافية نفسها كـ»ثقافة عليا»‬
                                       ‫فهكذا هي «الذهنية الجرمانية»‬           ‫حاكمة على عموم «مستودع‬
                                        ‫لا بد أن تخلق صرا ًعا صفر ًّيا‬       ‫الهوية» الأوروبي‪ ،‬خاصة في‬
   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123