Page 170 - merit 36- dec 2021
P. 170

‫العـدد ‪36‬‬                                 ‫‪168‬‬

                                   ‫ديسمبر ‪٢٠٢1‬‬                           ‫كامنًا في الوجود كما أردناه‪،‬‬
                                                                        ‫فإن الوجود لا يبوح بأسراره‬
 ‫الوجود‪ ،‬فكيف يكون الوجود‬             ‫وعن الغيب وعن الله خطاب‬            ‫إلا للسالكين‪ .‬وتجارب هؤلاء‬
   ‫ه ًّشا؟ وهل تنعكس هشاشة‬             ‫خادع مثل من يبسط يديه‬
‫الوجود على كتابة الشعر وليس‬           ‫للماء ليروي ظمأه فلن يبلغ‬           ‫السالكين متفاوتة ومتراتبة‪.‬‬
                                        ‫الماء فمه أب ًدا‪ .‬لذلك انبثقت‬  ‫فشعر الحلاج مث ًل نمط يختلف‬
                ‫على الشعر؟‬                                              ‫عن شعر أبي نواس‪ ،‬وكلاهما‬
                                      ‫لغته من معينه فسلك طريق‬
        ‫‪-1-‬‬                        ‫القلب والوجدان‪ ،‬وتل َّقى معرفة‬        ‫اصطلى بنار التجربة الحسية‬
                                   ‫حدسية ذاتية هي برهان نفسها‬           ‫التي هي أس تجربته المعرفية‪.‬‬
   ‫الوجود الهش وص ٌف لغو ٌّي‬
      ‫لعلاقة السالك بالوجود‬          ‫وليس عليها برهان خارجي‪،‬‬               ‫فأبو نواس وجد في الخمر‬
      ‫وليس وص ًفا للوجود في‬         ‫وترجم كل ذلك في لغة مشكلة‬             ‫طري ًقا لإشباع نهم الحواس‬

    ‫ذاته‪ .‬فالوجود في ذاته غير‬          ‫هي لغة «الطواسين»‪ ،‬التي‬               ‫اليقظى‪ ،‬ولبلوغ نوع من‬
  ‫موصوف بصفة‪ .‬ولأن اللغة‬            ‫هي لغة الشعر‪ ،‬بمعنى الكتابة‬           ‫المعرفة غير المعرفة المألوفة‪،‬‬
  ‫في حد ذاتها هي التي تسمي‬          ‫عن تجربة وجودية ذوقية من‬            ‫وهي معرفة السماع والاتباع‪،‬‬
   ‫الكائنات والأشياء‪ ،‬ثم تحدد‬       ‫معين خاص‪ .‬وقد صدمت هذه‬                 ‫ليحل محلها معرفة المعاينة‬
 ‫لها صفات وأحجا ًما وأشكا ًل‪،‬‬        ‫اللغة كل من لم يفهمها‪ ،‬وكل‬         ‫والتجربة‪ ،‬ورأى أن الشعر ذو‬
   ‫فإن هذه اللغة أي ًضا تصف‬                                             ‫معان شتَّى وإن كان واح ًدا في‬
                                      ‫من اتخذ موق ًفا قبليًّا من كل‬     ‫اللفظ‪ .‬فشعره ومعرفته سواء‬
     ‫علاقة الإنسان بالكائنات‬        ‫مختلف ومغاير‪ .‬وكل من رأى‬            ‫بسواء‪ .‬وإذا كان الوجود لدى‬
     ‫والأشياء‪ .‬وبما أن علاقة‬        ‫أن الشعر هو صياغة المعروف‬          ‫أبي نواس مشك ًل ومع َّمى‪ ،‬فإن‬
  ‫الإنسان بالوجود ليست على‬                                             ‫الشعر من معدن الوجود‪ .‬لذلك‬
  ‫وتيرة واحدة‪ ،‬إذ تختلف من‬             ‫سل ًفا في شكل أ َّخاذ‪ .‬وكان‬     ‫كتب شعر المناجاة لله كما كتب‬
     ‫عصر إلى عصر ومن فرد‬             ‫سؤاله «لم لا تقول ما يفهم؟‬        ‫شعره في التغزل بقدرات إبليس‬
  ‫إلى فرد ‪-‬حسب ما هو متاح‬            ‫ليجد الإجابة» ولم لا تفهم ما‬       ‫وسحر الخمر التي هي مبعث‬
   ‫من المعرفة والأدوات‪ -‬فإن‬        ‫يقال؟»‪ ..‬على نحو ما حدث لأبي‬        ‫السرور «إذا م َّسها حجر مستَّه‬
‫الصفات التي تطلق على الوجود‬                                            ‫س َّراء»‪ ،‬ومن كانت هذه تجربته‬
    ‫صفات متغيرة ومتناقضة‪،‬‬                                ‫تمام‪.‬‬
 ‫ومرتبطة إما بالوصف العلمي‬            ‫فأبو نواس والحلاج كلاهما‬               ‫مع الوجود‪ ،‬فإنه صادم‬
  ‫أو الوصف الذاتي‪ .‬وهشاشة‬             ‫عبر صلته بالوجود بلغ إلى‬           ‫لأغلب المتلقين الذين وصموه‬
    ‫الوجود تعني أن كل شيء‬            ‫الشعر‪ ،‬وكلاهما كتب الشعر‪،‬‬            ‫بالمروق والتمرد والعصيان‪.‬‬
 ‫فيه خا ٍل من المعنى‪ ،‬وخا ٍل من‬        ‫ولكن شكل الكتابة عند كل‬           ‫وشعره الواحد في اللفظ وذو‬
   ‫التماسك‪ ،‬وأنه في حال دائم‬         ‫منهما كان مختل ًفا‪ ،‬لأن معين‬         ‫معان شتَّى له ظاهر وباطن‬
 ‫من التحول والتبدل مثل تدفق‬                                              ‫مثل الوجود له ظاهر وباطن‪،‬‬
  ‫الماء من مكان عال‪ .‬وهشاشة‬              ‫تجربته التي استمد منها‬
‫الوجود بهذا المعنى تنعكس على‬        ‫معرفته بالوجود كان مختل ًفا‪.‬‬            ‫ولكن الظاهر لا يعني كل‬
   ‫الإنسان انعكا ًسا مؤلمًا‪ ،‬لأنه‬    ‫وهكذا يكون الشعر كامنًا في‬         ‫الباطن ولكنه طريق إليه مفعم‬
   ‫طرف أصيل فيها‪ .‬فالوجود‬            ‫أعماق الخصوصية كما يقول‬
     ‫الهش وصف أطلقناه على‬                                                                ‫بالأسئلة‪.‬‬
   ‫شعر إبراهيم داود‪ .‬لأن هذا‬                          ‫أبو تمام‪:‬‬             ‫وهذا ما ساق الحلاج إلى‬
    ‫الشعر هو تصوير للعلاقة‬         ‫والشعر فرج ليست خصيصته‬                 ‫مصيره المؤلم‪ .‬فقد أدرك أن‬
  ‫الذاتية بين الشاعر والوجود‪.‬‬                                           ‫لغة الظاهر لا تقود إلى جوهر‬
‫والتصوير هنا ليس الانعكاس‪،‬‬                ‫طول الليالي إلا لمفترعه‬        ‫الوجود‪ ،‬وأن جوهر الخطاب‬
                                   ‫أو كالغوص على الدر كما يقول‬          ‫اليومي عن الدين وعن رموزه‬

                                                   ‫ابن الرومي‪:‬‬
                                         ‫مطلبه كالمغاص في درك‬
                                        ‫اللجة من دون درها خطر‬
                                       ‫فإذا كان الشعر من معدن‬
   165   166   167   168   169   170   171   172   173   174   175