Page 88 - Pp
P. 88
العـدد 35 86
نوفمبر ٢٠٢1
عبد الجليل الشافعي
(المغرب)
رجل من تراب ،رجل من شجر
الروح طر ُّي العود ،قساوة القدر ،وبذلك خاصمني مع (يبكي الأرض التي سلبت ُه الصحة ،وغدا
طفولتي ،خاصمني مع العالم! ستسلبه الحياة.)..
حد ُث الاجتثاث. رواية ليل الشمس ،عبد الكريم الجويطي ،ص .82
*** مرت أعوام طويلة على الوقت الذي كن ُت فيه طف ًل،
طف ًل بعمر السبع سنوات .مرت مثل نهر هارب من
جدي كان رج ًل عظي ًما .لست أقول هذا لأنه جدي ،بل
لأنه كان يحب الأشجار ،ولا يمكن أن يح َّب الأشجا َر عد ٍّو هلامي.
إلا خيِّر .أما اسمه ،فهو ابن المشعل .في الحقيقة لم يكن الأنهار لا تخاف.
اسمه بل كنيته ،لكنها غلبت على الاسم حتى ما عاد لكن السنوات السعيدة تفعل!
أحد يذكره أو يناديه به .وقد كان جدي مضيئًا دائ ًما (ومع ذلك أرى شبها بينهما!).
وم ِش ًّعا ،كأنما قد ُطلي وجهه ،وجبينه خاصة ،بزيت ك َّرت السنون وع ُر َمت الأرقام فوق بعضها بشكل
فوضوي -فوضوي غير خ َّلق -حتى وإن بدت
زيتون من أحواز مدينة بني ملال .زيت ،ضوؤه لا للناس أنها تمشي في خط تعاقبي نحو مص ٍّب حتمي،
يزول ولا ينطفئ كما ال ُّشعلة في «آتشكده»( )2المجوس، وش َّكلت بذلك كومة من ُع ْم ٍر ،كومة من خيبا ٍت تج ُّر
املواضاح ِمدية ِربيدسبأاقخات ِتها،التَّتخايببا ِع اتلتعسلصاُم،ل كصمااحيبفهع،لالالخعيبَّداا ُءتفي
ويلمع ،حتى لو لم تمسسه نار! تسلم للخيبات ،تفعل ذلك بحرفية ،وأب ًدا ،أب ًدا لا
ولأني لم أشبع من التم ِّل في وجه أبي يو ًما ،بسبب
تجارته البعيدة وانشغاله النَّملي ،فقد كنت أجد العوض تسقطها.
الدافئ في جدي ،بل إني لا أبالغ إن قلت -وليغفر لي فعلت ذلك حتى َألِ ْف ُت َها .وقد يألف الإنسان وجعه.
أبي قولي هذا -إني كنت أحب جدي أكثر من أبي. قد يصاب الإنسان ،لفرط تتالي المواجع ،بمتلازمة
ومن جدي تعلمت حب الحياة ،وعشق الأشجار، ستوكهولم!
والتر ُّنم بالموسيقى ،ومنه تعلمت جرم محبة الجمال وكما يأنس المنف ُّي وحدته ،كما يأنس المحزو ُن دمعه،
وتذوقه .كلمة جرم هنا ،ليست شط ًحا لغو ًّيا ،أو أنستها.
صباغة لفظية ،أو ضر ًبا من المجاز .بل إني أعنيها .لأن لكني لم أنس يو ًما ذاك الحدث الذي غير حياتي،
وحولني من الطفل الذي كنته ،الطفل الذي لا يفارق
محبة الجمال في وطن يجي ُد تشوي َه كل شي ٍء جمي ٍل، جده ،ولا تفارقه البسمات والضحكات الصاخبات
ويمع ُن -كطعنة علاَّل ٍة -في تسوي ِد كل أبيض ،في عط ِب كأني واح ٌد من زمر ِة أطفا ِل أنشود ِة المطر( .)1الطفل
كل سليم ،في ب ْق ِر كل مليح ،ويطلق «كتائبه المخ ِّربة»()3 الذي كان يرى في ِحجر جده ما يراه الول ُب في جيب
تفعل في كل لمسة ح ْسن ،ما يفعله جي ُش جرا ٍد خراف ِّي أمه :كان يرى الأمان .إلى رجل فجأة ،هكذا كما تحدث
ال َّطفرة في عالم الطبيعة .وجعلني أحس ،وأنا بع ُد غ ُّض
الجو ِع ،في حقل نضر ،من بفعل ذلك ،يجترح جر ًما.
والعقوبة عنيفة وأبدية ،العقوبة إحساس جاثم
بالغربة ،وبأنك لست ابن هذا العالم.