Page 89 - Pp
P. 89
87 إبداع ومبدعون
قصــة
-سي المعطي ،بلادي هادي ،وهاد الجنان ديالي، ويحتَّم عليك مجابهة السؤال المقصلة ،في ذهنك ،كل
زرعته كرمة كرمة ،وقضيت فيه كل عمري ،منقدرش يوم كل يوم :لماذا نحن شعب موهوب في مديح القبح
نبيعها ولا نعطيها لشي حد ،حتى لو كان هاد الحد،
وإنتاجه؟
هو المخزن .ونتا عارف هادشي كثر من أي واحد
آخر ،نقبل تاخذوا واحد من ولادي ،ولكن الجنان لا، ***
وخا تلا َقا السما مع الأرض. كنت أحب جدي بقدر حبه للأشجار .وأذكر أنه كان
بدا الغضب على ملامح شيخ القبيلة ،ثم تمتم وهو يهم يقول لي ،إذا ما حدث وابتعد عن بستانه المليء كرو ًما
وأشجا ًرا مثمرة ،بستانه الذي كانت السواقي َت َت َخ َّد ُد ُه
بالانصراف: فتمنح الحياة لكل شيء ،بستانه الذي حين كنت أسمع
-نتا تعرف شغلك اسي بنمشعل ،ولكن راه المخزن ما
بكلمة (جنة) وأنا صبي لم يبلغ الحلم ،أتخيلها على
يقد عليه حتى واحد .أنا جيت نعلمك ب ِّل غادي يجي شاكلة بستان جدي ،يقول لي إذا ما حدث وغاب ،ثم
سعادة القايد ولخدامة باش يقادوا الطريق ..وما على عاد متله ًفا ،يسابق خطوه إلى حبيباته -وحبيباته كانت
الأشجار -يقبلها ويحضنها ،يقول لي :تذكر يا ولدي،
الرسول إلا البلاغ.. أن الأشجار مخلوقات لها مشاعر مثل البشر ،وحين
بمجرد أن أدب َر الرجل قاف ًل من حيث أتى ،رأيت جدي أغيب عنها تشتاقني كما أشتاقها .إنها تخبرني ذلك
دائ ًما .ثم يحكي لي قصة النبي مع جذع النخلة الذي
يجلس .لم يكن جلو ًسا في الحقيقة ،كان سقو ًطا،
سقو ًطا ح َّن ح َّد البكاء..
مدو ًيا ، وقد كنت أصدق جدي حين كنت صغي ًرا.
عل ى وبعد كل هذا الأعوام التي سالت من خابية العمر ،ما
هيئة
زلت أصدق جدي.
جلوس..
وحين اقتربت منه ،وتأملته ،أفزعني زوغان نظراته في ***
محجريه .ولأول مرة أحس أن جدي عجوز بالفعل، كنت طف ًل عاش ًقا لكل أخضر ،وللماء والطير ..ولسماء
تائه ،ضعيف ،ومعدوم الحيلة. قريتنا الأرحب من كل سماوات الله ،وكنت أع ُّدني
كاليتيم صار جدي. محظو ًظا كوني ابن قرية تقع على سهل خصب
خصوبة الأمهات القرويات اللواتي يكفرن أب ًدا
*** بالعقاقير ..تطل عليها المدينة من على ربوتها كإله
إغريقي عرشه الخيال الأول!
بعدها بأيام ..جاء القائد بمعية فرقة من الجدرمية
والشيخ -الذي بالغ في إخبارهم برفض جدي- وظل هذا الشعور يلازمني كظلي ،ويتع َّرش كما الدالية
يتبعهم العمال يحملون المعاول والفؤوس وال ُعتل، على أفنان الحشا ،إلى أن جاء الحدث القاصم على لسان
ومن ورائهم الجرافات والحفارات الشبيهة بمخلوقات شيخ القبيلة ذات ظهيرة قائظة ملعونة:
عملاقة شرهة بشعة الأفواه.. -سي ب ْنمشعل ،السلام عليكم .جيت نخبرك أن
المخزن( ،)4غادي يأخذ هاد البلاد (يقصد الجنان) باش
ولما شرعوا في اجتثاث الأشجار ،دون رحمة ،دون يديروا الطريق .ومتخافش ،المخزن غادي يعوضك.
حزن ،دون مبالاة ،وبشكل آل ٍّي خرساني ،كانوا بذلك، مر َق ضوء خاطف في عيني جدي ،ثم ك َبا إلى الأبد،
ينزعون من فؤاد جدي جذوة الحياة ،وحين أضرموا رنا إلى أشجاره ،وبدا للحظة أنه لم يعد من أبناء ه ِذي
النار فيها ،أحرقوا كل ذرة تحبل ُه بهذي الأرض ،بهذي
الأرض ،ثم قال بصوته الحاد النبرات:
الحياة التي كان يعشقها..
***
انصرمت ليا ٍل معدودات بعد الاجتياح ..بعدها،
مات جدي .لا أعني أنه مات «موتة الله» وإنما