Page 105 - merit
P. 105
103 الإبداع الكردي
قصــة
مجارير البلد! أخذ معه حاضره ومستقبله ،وتوقف عمره كما
اللحظات تمضي ببطء شديد ،إنها حفلة التعذيب تتوقف عقارب ساعة الحائط المعطوبة ،يسمع بألم
يعيشها بتفاصيلها ،والأشد إيلا ًما ألا أحد يعرف بكاء أمه فيتذكر أغنية مارسيل خليفة ،عبارة منها
أنه يسمع ويحس بالحشرجات والأنفاس المواكبة
للدموع ،ولرائحة دخان أمه التي تشرب السيجارة وهي الخجل من دموع الأمهات.
تلو الأخرى دون توقف ،رغم كونها مريضة ،لكن تساءل وليد الميت:
لا شيء غير التدخين يخفف من اضطرام نار إلى متى سأظل أسمع وأحس؟ هل هذا هو الموت
الفاجعة التي تعصفها ،أخواته السبع اللاتي يبكين ح ًقا؟ كم أنا نادم لأني لم أدرس شيئًا عما وراء
ويلطمن ويستغثن ،يرددن بأسى ثقيل :يا أخي يا
الطبيعة ،ظللت مشغو ًل بالفلسفة الإنسانية
أخي! ومعضلاتها .ترى ما علاقة ما يحدث بتفسيرات
بضع أصوات تتقدم صوبه :هيا يا رجال لنسارع الأديان؟ تذكر أيام تدينه الأولى قبل أن يتجاوز
الثامنة عشرة ،وصيحات الخطيب في الجامع وهو
بحمله وإدخاله التابوت .تهرع والدته وأخواته يتحدث عن أهوال عذاب القبر .ابتسم بشجاعة في
للحيلولة دون أن يحملوا جثته ،لوضعها في نفسه وقال لا أرى ذلك أكي ًدا ،فأنا لا تنطبق عليَّ
التابوت:
-لا تأخذوه أرجوكم ،أبقوه قلي ًل. سمات المؤمن حسب تعبير الخطيب ونظرته.
-أرجوكم. أراد أن يصيح ويقول:
-تبدأ مراسيم دفن الشهداء الأربعة وأخيكم بعد يا جماعة يا ناس أخرجوني من بين يدي أهلي،
ساعتين ،لا بد من حمله نأسف بشدة. أخشى أن تموت أمي من البكاء ويختنق أبي من
شدة الحرقة التي في قلبه ،أين الذي يغسل الموتى؟
يقومون بحمله وإدخاله للتابوت ،ومن ثم يرفعونه، هذا ليس أوان الغسل ،فالشهيد لا يغسل بل يك َّفن
فيدخل جمع من الشباب تحته ليحملوه جمي ًعا بثيابه كما قرأ ذلك في قصيدة كان قد درسها عندما
ويرددوا :الشهيد لا يموت ،الشهيد لا يموت .علت كان في الصف التاسع الإعدادية:
الأصوات وخلت الغرفة من الماكثين بغية البكاء خلو الشهيد مك َّفنًا بثيابه
والولولة ،أحد الهرمين قال لوالد وليد ووالدته:
خلُّوه في السفح الخبير بما به
-عار عليكما البكاء عليه ،إنه شهيد ،إنه ابننا جمي ًعا لا تغمضوا عينيه إن أشعة
ونفخر به كما نفخر بكل شهدائنا ،هم رمز كرامتنا حمراء ما زالت على أهدابه
وإبائنا. نعم لم يغمضوا عين َّي ،ربما نسيوا أن يغمضوها،
وبدأ الجميع يهتف وهم يخرجون من المنزل فرادى هكذا أحس وليد الشهيد بثرثرة لا تنفك عنه ،روحه
وجماعات :الشهيد لا يموت. تتحدث كثي ًرا ،أكمل :متى سيحملونني في التابوت
لا أحد يعرف ما هو الموت ،ولم يعد كائن منه ليخبر ويرفعونني عاليًا ،كم أخشى من المراسيم ،كم
الأحياء عن ماهيته ،لكن سحنته مرعبة واسمه أخشى من البكاء ،كم ستؤلمني الأناشيد والأغاني
مفزع ،التوابيت المرفوعة ملفوفة بالعلم ،يتم قراءة الثورية ،وداع الأحياء هذا سيكون الأخير.
الخطابات فوقها ،والجموع الباكية والمشيعة تلتف
حولها ،وليد ورفاقه المستشهدين بالكاد يسمعون أحس وليد بدموع ككريات الحمم تخرج من روحه
بعضهم ،لقد بدأوا يقلُّون في الحديث ،ساد جو من وليس من عينيه التي نسيوا إغماضها ،أيعقل
الأنين المنفرد ،داخل ذلك التابوت نبض استقال عن
النبض ،ودم تجلَّط لم يعد يتحرك ،بات كمستنقع أنها آخر مرة لي أسمع فيها جمو ًعا تتهيب جنازة
راكد ،الأرواح تهذي ،تتحدث برشاقة ،لأن صمتها الشهيد؟ يا إلهي يا إله اسبينوزا العاقل السمح
-لو لبرهة -اختناق لا مثيل له ،تنتهي المراسيم الذي لا يكافئ ولا يعاقب ،خفف مصاب أمي ،اعط
ويتم التوجه نحو المقبرة ،ال ُح َفر ال َّش ِرهة بانت. صبر أيوب لأبي ،دعوهم يحسون بعظمتي أنا الذي
مات لأجل البلد وعشق البلد وناس البلد وحدائق
واسطبلات البلد ،وشوارع وأزقة ومقاصف وحتى